تشارك الجميع في إنزال الحقائب وثلاجة المأكولات والمشروبات «الآيس بوكس».. اتجهت «شهد» و«ليلى» إلى المطبخ حيث أفرغتا محتويات الثلاجة والحقائب، بينما انشغل «أحمد» و«طارق» و«سيف» في وضع الكراسي والكنب البامبو الخاص بالحديقة في مكانه، وإعداد الشواية للـ«باربيكيو».
أعدت «شهد» الشاي والكيك، وقامت «ليلى» بإنزال الصينية وأطباق الكيك إلى الحديقة.. كانت الشمس مشرقةً والجو صافيًا بديعًا.. دعا «أحمد» «طارق» إلى دور شطرنج، بينما ذهبت «ليلى» لتختار إسطوانة الموسيقى، وانشغل «سيف» مع أمه في المطبخ.
سمعت «شهد» صوت «طارق» يناديها:
- ياللا يا «شهد» الشاي حيبرد.. تعالي اشربي الشاى معانا.. لسه بدري على الغدا.
أجابت من داخل المطبخ:
- حالاً.. جاية حالاً يا «طارق».
جلست «شهد» تشرب الشاي.. أخذت نفسًا عميقًا ورفعت وجهها في اتجاه السماء، فى حركة تنم عن استمتاعٍ كاملٍ بدفء شمس ذلك اليوم وصفاء جوه.
وقعت عيناها فجأة على «طارق» لتجده محدقًا فيها، مركزًا، مستغرقًا فى تأمل حركاتها وإيماءاتها كأنه طبيب يحاول أن يضع يده على مفتاح التشخيص لحالة مريض.
أدهشها هذا التحديق اللافت لكنها أدركت السبب أو توقعته.. لا بد أن زوجها قد حكى لصديقه الحميم عن تصرفاتها في الفترة الأخيرة.. هكذا يقول «أحمد» ويصف الموقف.. حدث ذلك عندما سمعته دون قصد يتحدث إلى أمه في التليفون، وكذلك عندما تكلم مع صديقتها المقربة «حنان»، فهو يعتقد أن زوجته تمر بحالة نفسية، وأنها فى حاجة إلى علاجٍ نفسي، لذلك فهو يحاول أن يقنعها بذلك عن طريق أطرافٍ أخرى، بعدما فشل في أن تستجيب لنصيحته.
قالت لنفسها:
«من المؤكد أنه حكى لـ»طارق» كل شىء، وأوحى إليه بأننى على وشك الجنون، لماذا يحدِّق «طارق» في وجهي بهذا الشكل؟ لماذا يختلس النظرات ويراقب حركاتى وتصرفاتى من بعد»؟
فاجأها «طارق» بسؤالٍ كسر الصمت الذى ساد الجميع برهة:
- إيه حكاية الماضي معاكي يا «شهد»؟
ارتبكت قليلاً ثم ندت عنها ابتسامة، كأنها تحاول أن تبدو متماسكةً وطبيعيةً.. قالت:
- الماضى يا «طارق» جزء من حياتنا، وفى عمرنا ده هو كل حياتنا.
كان «طارق» يركز بكل حواسه في حواره مع شهد، كأنه يحاول النفاذ إلى أعماقها، وقراءة ما يدور هناك.
فاجأته بسؤال:
- ألا تعيش الماضي يا «طارق»؟.. ألا تشعر أن الجزء الباقي من حياتنا ما هو إلا تحصيل حاصل؟
أجابها باهتمام كأنه نسى المكان الذى يجلس فيه بين أصدقاء في حديقة، واندمج في الحوار كما لو كان في ندوة ثقافية يدلي فيها كل متحدث بما يراه أو يعتقده، فقد كانت هذه القضية التى ألقت بها «شهد» ببساطة دون أن تدرى تدور في أعماقه، لذا فقد حرّكت بهذا السؤال العفوي بحيرة تفكيره، فتماوجت الدوائر الصغيرة في ذهنه، لتتسع إلى دوائر أكبر فأكبر.
- تعرفي يا «شهد» إن سؤالك ده هو محور القضية اللي بتشغل تفكيري دلوقت، وبدأت فعلاً أكتب عنها.
بفرحةٍ واهتمامٍ قالت «شهد»:
- صحيح يا «طارق».. ده هيبقى كتاب مهم أوعدني إنى أقرأه قبل أي حد.. إنت عارف إني بحب القراءة، وده موضوع مهم محتاج دراسات وكتب عميقة زي كتبك يا «طارق».. فيه ناس كتير حتشتري الكتاب ده.. ومش بعيد يبقى «best seller».
ابتسم «طارق»، أسعده هذا الاهتمام من «شهد»، وشحنه ليبدأ كتابه عن الحنين إلى الماضى، أو ما يسميه أدباء الغرب بالـ «nostalgia»، وقال لها:
- لكنك يا «شهد» سوف تشاركين في هذا الكتاب.
قالت باندهاش:
- كيف؟
قال:
- حرتّب معك جلسات عمل.. تحكى فيها عن كل اللي بتعيشيه وتحسيه لما تستدعى أحداث الماضي.. ده جزء مهم جدًّا فى الكتاب.. الجزء المبني على التجربة الحية، وفي كتب الغرب بيهتموا جدًّا بالجزء ده لأنه هو اللي بيوصل للناس ويرسخ الفكرة اللي الكاتب عاوزها توصل للقراء.
ازداد اهتمام «شهد»، وبدأت تفكر في هذا المشروع الجديد، الذي سوف يحتل جزءًا مهمًّا من تفكيرها من الآن، فالمادة جاهزة والفكرة رائعة، يكفى أن تجد من يشاركها التفكير فيما تستغرق فيه وحيدة.. يكفي أن تجد شخصًا واحدًا في الدنيا يتفهم ما يدور داخلها، ولا يعاملها على أنها مريضة نفسية أو امرأة مخرّفة تعبر مضيق منتصف العمر، وتقف على أعتاب الشيخوخة.