فى الوقت الذى ينشغل فيه العالم بما يدور فى سوريا من تطورات عسكرية وتفاعلات سياسية، تتسارع خطوات تمترس تنظيم داعش فى ليبيا، على مرأى ومسمع قوى كبرى تزعم أنها تقف بالمرصاد للإرهابيين، وتريد تخليص العالم من شرور داعش وأخواته.
◀ محمد أبو الفضل
الأيام الماضية، تسارعت فيها تحركات انتشار عناصر التنظيم فى كثير من المناطق الليبية الساحلية والداخلية، وبدت الأمور تسير فى اتجاه الإمساك بكثير من المفاتيح والخيوط على الأرض، والاستعداد للمرحلة المقبلة، قبل أن يتم تسليط الأضواء على ليبيا، التى أصبحت شبه منسية الآن، مع أن ما يدور فيها، لا يقل خطورة عما يدور فى سوريا، التى جذبت أنظار العالم، وأضحت فى مقدمة أجندة بعض القوى الإقليمية والدولية، وزادت الإثارة عقب احتدام المناوشات السياسية بين روسيا وتركيا.
ربما كانت مصر فى مقدمة الدول التى حذرت من انتشار فلول المتطرفين فى ليبيا، ومع ذلك لم ترد كثير من الدول المؤثرة، من داخل المنطقة وخارجها، التجاوب مع التحذيرات، بل أصرت على المضى قدما فى سيناريو سياسى خبيث، بدا للوهلة الأولى أنه سوف يقود حتما للفشل، لكن لأن أطرافا أرادت المزيد من الوقت، مضت التصورات الخاطئة للحل السياسي، وكلما اقتربت ملامحه ظهرت مقدمات لتعطيله. وحتى عندما توصل المتفاوضون فى الصخيرات بالمغرب إلى ما يشبه الاتفاق، بدأت سلسلة من الأزمات تتفجر واحدة وراء أخرى، وعاد الوسطاء والمتفاوضون، يجرون أذيال الخيبة، يبحثون ظاهريا عن تسوية غائبة، ومعظمهم كان مرتاحا لهذا الغياب، لأنه يعنى توفير الوقت، لتهيئة الأجواء لمزيد من الفوضى والانفلات، وأضحت العملية السياسية مطلوبة فى حد ذاتها، حيث تبرىء ساحة قوى رئيسية فى المجتمع الدولي، فهى توحى فقط بأن هناك جهودا تبذل للحل.
وبينما تبدى هذه القوى انشغالها بالمعركة السياسية على طاولة المفاوضات، كانت هناك قوى أخرى منشغلة بمعارك أخرى على الأرض، فطريق التسوية المتهاون والطويل، منح داعش، وأنصار الشريعة، وكل الميليشيات التى نمت وترعرعت فى أحضان الدولة الليبية، فرصة لتثبيت أقدامها فى أماكن كانت بعيدة عنهم، وهو ما ضاعف من صعوبة التوصل إلى حل سياسي، دون السماح لهؤلاء بالمشاركة فيه، أو على الأقل الحصول على مباركتهم، صراحة أو ضمنا، وبذريعة أن من يقبضون على زمام الأمور على الأرض لابد أن يكون لهم نصيب، انتكست كل محاولات التسوية، البريئة والخبيثة.
الواقع أن تعثر المفاوضات فى الأزمة الليبية، لم يكن مستبعدا منذ البداية فى تقديرات قوى عليمة بالتعقيدات التى دخلتها، لكن الأبواب فتحت أمام الحلول السياسية ومددت بعض القوى حبالها، تمهيدا للحظة يبدو أن أوانها قد حان الآن، لحظة تتغير فيها الحسابات الإقليمية والدولية بشأن سوريا، وتبدأ فيها عملية حسم الموقف من وجود داعش على أراضيها، لأن استمرار عناصر التنظيم، يمثل تهديدا مباشرا لكثير من الدول الأوروبية، بحكم الجغرافيا، والولاءات والانتماءات، حيث من المتوقع أن تفضى أى تسوية سلمية أو حسم عسكري، إلى خروج داعش من المشهد العام.
لذلك كان الاستعداد متخيلا، بل قائما فعلا، وكان البديل جاهزا، ليبعد شبح التنظيم عن أوروبا، ولعل أحداث باريس والتى زج فيها باللاجئين السوريين، تؤكد هذه النتيجة، فقد ذاعت معلومات بشأن تسرب أعداد من الإرهابيين بين صفوف المشردين، بسبب اشتداد الحرب فى سوريا، وتسربت عناصر داعشية إلى عدد من الدول الأوروبية، ثم قيل إنها أسهمت فى أحداث باريس.
المسرحية التى افتعلتها بعض القوى الكبرى فى سوريا، يبدو أنها أوشكت على فصلها الأخير، بعد أن دخلت موسكو بثقلها، وارتكبت تركيا حماقة إسقاط الطائرة الروسية فوق الأراضى السورية، ما جعلها مضطرة لسد منافذ حدودها، وأضحت الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا غاية فى الحرج، فإما أن تزج بحلف الناتو فى مواجهة مباشرة ضد موسكو، المدعومة من قوى إقليمية ودولية أيضا، أو تنحنى للعاصفة، وتسرع بوتيرة المفاوضات، لترتيب البيت السورى الجديد، بأقل خسائر ممكنة، قبل الالتفات لجدول الأعمال الليبي.
على وقع اشتداد طبول الحرب والسلام فى سوريا، كانت ليبيا جاهزة لاستقبال المزيد من العناصر الإرهابية المنتمية لداعش، وهو ما يفسر أسباب عدم الحرص الغربى على ضبط السواحل الليبية مبكرا، وترك سفن تابعة لتركيا وغيرها بتهريب الأسلحة للمتطرفين فى ليبيا، والأخطر استمرار حظر السلاح على الحكومة الليبية، للحفاظ على ميزان القوى المختل لمصلحة داعش وأشقائها الإرهابيين.
إذا كانت الأوضاع فى سوريا، ومعها العراق مريحة بالنسبة لعناصر داعش، ولقيت دعما كبيرا من جهات معلومة ومجهولة، فهى فى ليبيا أكثر يسرا، ففى الضفة الأولى، كانت توجد عوامل كبح قوية تستطيع، إذا أرادت التحرك، أن توقف زحف التنظيم عند الضرورة، فهناك إيران وشيعة العراق والأكراد، فضلا عن الولايات المتحدة وتركيا، حيث بإمكان هذه الدوائر ضبط التطورات، إذا اتجهت إلى طريق يمكن أن يؤدى إلى خلط أوراق، لا يراد لها الاختلاط.
أما فى الضفة الثانية (ليبيا) فعناصر الضبط والربط تكاد تكون غائبة، وربما مصر الدولة الوحيدة التى تقاتل بمفردها على هذه الجبهة، من حيث إحكام السيطرة على حدودها، وقدرتها على إلحاق الأذى بعناصر التنظيم داخل ليبيا، لأن دول الجوار الأخرى، لم تكتف بفشلها الجماعى فى البحث عن حل مناسب للأزمة، لكن دولها لم تعد راغبة أو غير قادرة على مواجهة الثعابين القادمة من ليبيا.
جميع دول الجوار الليبي، بخلاف مصر(الجزائر وتونس وتشاد والسودان وإفريقيا الوسطى) تعانى اختراقات داعشية، وتيار المتشددين توغل فى أراضيها، وترفض الزج بنفسها فى مواجهات خارجية، وبالتالى ضمن الإرهابيون فى ليبيا قدرة عالية على التحرك فى الداخل، والأدهى أنهم منفتحون على زملائهم فى الخارج، عبر الحدود شبه المفتوحة فى الدول السابقة، الأمر الذى وفر لهم غطاء إقليميا جيدا، إذا أضيف إلى الغطاء الدولى الذى لعب أدوارا مركبة للوصول إلى هذه النتيجة، تصبح داعش ليبيا أشد خطورة من نظيرتها فى سوريا.
ومطلوب أن تنشط الدبلوماسية العربية خلال الأيام المقبلة لمناقشة مخاطر داعش فى المنطقة عموما، لأن القرار الذى استصدرته فرنسا من مجلس الأمن أخيرا، استثنى داعش ليبيا، فى رسالة فاضحة تؤكد خطورة المعطيات السابقة.