الأهرام
سناء البيسى
ســـــيناريو الحــــرب
هل يمكن أن يرتفع صوت العقل مع نتائج اللقاء الروسى التركى الفاشل علي مستوى وزراء الخارجية سيرجى لافروف ومحمود جاويش أوغلو خلال قمة منظمة الأمن والتعاون بأوروبا القادمة في بلجراد، وأن يرفع الجميع أيديهم عن سوريا الشقيقة ليصلي الآمنون فى المسجد الأموى المطل علي قلعة دمشق التي يتربع علي زاويتها الرئيسية تمثال صلاح الدين الأيوبى بطل الحروب الصليبية ليعبروا سوق الحميدية الذي كان مزارا يوميًا لمليون سائح يتجولون فيه مبهورين بين بضائع شتى لا تخطر علي بال إنسان ليغادروه إلي المكتبة الظاهرية التي بناها الظاهر بيبرس بعد تحرير المشرق الإسلامى من الصليبيين، وفي الإطلالة علي حي العمارة يقرأون الفاتحة علي قبر صلاح الدين بهالته الأخاذة.. أمنية للسلام، لكن ميخائيل الكسندروف الخبير الاستراتيجى البارز بمركز الدراسات الروسية العسكرية يرى: «أن الأحداث المتسارعة قد تقودنا إلي حالة الحرب التي ستكون روسيا فيها مضطرة إلي استخدام الأسلحة النووية وفورًا، لأن الغرب وتركيا سيحاولون منذ الآن جرنا إلي حرب استنزاف مثل شبه جزيرة القرم، وسيحاولون تدمير تجمعاتنا في سوريا، ومن وجهة النظر الاستراتيجية إذا ما اشتعلت الحرب مع تركيا يجب أن تكون قوية وواسعة وخاطفة، مع البدء فورًا بضربات نووية موجهة إلي البنية التحتية للمواقع العسكرية دون الدخول في المدن، وفي خلال ساعات لابد من تدمير تلك المواقع بالكامل، وقد يكون من الضروري استخدام صواريخ باليستية لتدمير الدفاع الجوى التركي ــ وتلك غير الصواريخ التي نشرت حديثا للدفاع وليست للهجوم ــ وهنا سيكون كافيا وحازما وقاطعا الصاروخ الإسكندر الأكبر برءوس نووية لتدمير البنية التحتية التركية العسكرية، بعدها الاتجاه الفوري لاحتلال المضايق «مضيق البوسفور» وهنا فإن الغرب لابد وأنه سيؤخذ علي حين غرّة، ولن يكون لديه الوقت لفعل أي شىء وسيقف مكتوف اليدين، وسيضع الأمريكيين أمام حلين لا ثالث لهما، وهما إما أنهم سيبدأون معنا حربا نووية استراتيجية من أجل تركيا، أو أنهم لن يفعلوا، وبالطبع سيختارون الحياة، وستبدأ جلسات المفاوضات حول موضوع السؤال «لماذا دمرتم تركيا؟» وسيقفون دقيقة حدادا علي أوراح الملايين ــ وربما أبدى بان كي مون الأمين العام للأمم المتحدة قلقه بالنسبة لوجوب دخول عربات الإسعاف والطعام ــ وفى ظل ذلك سيحتل الأكراد المناطق التابعة لهم، وسنترك أرمينيا تنهش من الأرض ما يحق ويحلو لها، وينفصل العلويون فى تركيا».. وتكتمل رؤية الاستراتيجى الروسي بقوله: «إن الحرب بالنسبة لتركيا تعنى دخولها اللعبة عارية بميزانية تساوى الصفر»..

وتبيع داعش لتركيا 300 برميل نفط يوميا بثلاثة ملايين دولار قبل بدء العملية العسكرية الروسية في سوريا منذ شهرين لكنها تراجعت في الآونة الأخيرة إلي 1٫5 مليون دولار ــ تحلبه من ضروع سوريا مجففة نبض الطاقة بها لتذهب الآن إلى ليبيا للتدريب علي قيادة الطائرات وتجنيد المرتزقة في أنحاء العالم وتسليحهم وتزويدهم بالمعدات.. ويفتي القرضاوى أحد أضلاع إخوان الشر بوجوب دعم تركيا في وقوفها الصامد ضد روسيا مع دعم الاقتصاد التركى ــ الذى ثبت أن رئيس تركيا ذاتها وأفراد أسرته متورطون في صفقات نفط مع تنظيم داعش مقابل إمداد التنظيم بالسلاح ــ ليتفق معه كـلا من الإرهابى الإخوانى الهارب عاصم عبدالماجد، و برهامى نائب حزب حزب النور علي أن روسيا دولة كافرة، وعلينا ألا نفرح بضرب الغرب لداعش، وعلي الإعلاميين الذين يحرضون روسيا علي تركيا أن يدركوا أنهم على ضلال مبين، وأن الموالاة محرمة للمعتدين على بلاد المسلمين.. وهكذا تتسبب لوثة الإخوان المتجذرة في الوصول إلى السلطة ــ بإيعاز من الغرب ـ بنسف خلافة كرسى السلطان العثمانى، مثلما فعلها الغرب من قبل بصدام حسين، مما سيؤدى إلي تدمير دولة مسلمة أخرى سيعود أهلها الطيبون الذين كنا نفخر بهم ونمجد بشارة الحضارة فوق بسفورهم إلي الوراء مئات السنين بما يهرتل به الأردوغان الذى فقد توازنه من أنه مكبّر دماغه وأن أنقرة لن ترد علي ردود الفعل الانفعالية لموسكو ولن تمس بمواطنيها أو مصالحها، وأن أمر طرد مواطنين روس من تركيا غير وارد.. وتضيع الأندلس من جديد كما تضيع فلسطين!



إدوارد سعيد وكاريوكا

ليس هاجسًا يعترينى، ولا غراماً بالكشف عن مكنون الصدور، أو إزاحة الستار عن الأسرار، أو التنقيب عن نقاط الضعف لدى البعض، أو الرغبة في حشد علامات التعجب والتلذذ بسماع التعبير «معقولة!!» و«شىء لا يصدقه عقل!»، وليس في قناعتى أن الإبداع طبقات ومستويات ودرجات، فصاحب القلم القدير عندى علي نفس مستوى الممثل والمخرج والرسام والنحات والموسيقار والشاعر القدير.. وكما قدمت في الأسبوع الماضي دفء المشاعر الفياضة التى حملها المفكر الفيلسوف عبدالرحمن بدوى للمطربة أسمهان علي مدى 45 عاما ليعود بعدها من هجير الهجر والهجرة في باريس ليزور قبرها ويشرح فنها ويتأسى علي ما فاته وفاتنا من فن ليس له نظير بوفاتها المبكرة فى الثانية والثلاثين، أعود اليوم على نفس الدرب لتقديم عودة المفكر العربي الكبير إدوارد سعيد بعد أربعين عاماً في المهجر للبحث عن فاتنة الشباب والأيام الخوالى «تحية كاريوكا» التي التقاها للمرة الأولى عام 1950 لتدعوه في عام 89 على فنجان شاي فى شقتها الصغيرة القريبة من مكان اللقاء الأول فى كازينو بديعة، ليخرج من عندها يصف ويتذكر ويحلل ويتفلسف ويقارن ويتدفق في راقصة مصر العالمية الخارجة من باب الحمام وكل خد عليه خوخة.. كاريوكا التى يفككها سعيد ويحللها لعواملها الأولية وعوالمها المكتسبة ويعيد تركيب عناصرها من جديد بنسبها المتفاوتة ما بين الحب والمعارك، والمصادفة والحبكة، والخطة والقدر، والجوع والتخمة، والحرية والسجن، والتخشيبة والملك، والصحة والمرض، والزواجات والطلاقات، والملاية اللف والفستان السواريه، ولعبة الست ولعبة الحياة، وشباب امرأة واعتزال تائبة، والاتيكيت والردح، والذكاء والبلاهة، والمدمس والمارون، والسفح والقمة، والأرتيست وسجادة الصلاة.. كاريوكا التي قالت بعد سنوات من قيام الثورة: كان هناك فاروق واحد والآن نعيش عصر الفواريق!.. وليس وحدهما عبدالرحمن بدوي وأسمهان، ولا سعيد وكاريوكا، فلقاء الفكر والفن حدث عندهم وعندنا مرات في حوارات تناولت شتي مناحى حياتهم، مثل لقاء أديب إيطاليا الكبير ألبرتو مورافيا وبريجيت باردو، والأديبة الوجودية فرانسواز ساجان والرئيس الفرنسى فرانسوا ميتران، والأديب العالمى جارسيا ماركيز والمطربة شاكيرا، والمفكر السياسى الكبير أحمد بهاء الدين وفاتن حمامة..والكاتب الفيلسوف أنيس منصور وليلي علوي..الخ.

يجمع إدوارد سعيد مفردات اللقاء بين المفكر والراقصة الشرقية الأرفع التى تحتل ــ في رأيه ـ مثل أم كلثوم موقع الرمز المرموق في الثقافة الوطنية، ومثلما غنت أم كلثوم في عرس الملك فاروق عام 1936 عرفت تحية في تلك الحفلة الفارهة بدايتها الأولي، وحازت على مكانة بارزة لم تفقدها أبدًا: «رحبت بى بأنفة مهيبة لم أكن أتوقعها.. كانت ترتدى الأسود الداكن وقد جملت وجهها جيدًا، وكانت الأكمام الطويلة تغطى ذراعيها، والجوارب السوداء ساقيها كما يليق بمتدينة ورعة، وكانت لا يبWWدو عليها أى مظهر للابتذال.. إنها الآن تعكس ثقلا ومكانة نابعة من كونها أهم بكثير من مجرد راقصة شرقية سابقة.. أسطورة حية ربما أو ملحمة شعبية شهيرة.. الفنانة في طور شبه الاعتزال، حيث يلقبونها بالحاجة ليكتمل الإطار من حولي بصورة الكعبة المعلقة علي الجدار، ونسخة من القرآن الكريم الموضوعة بجلاء علي طاولة قريبة.. وإذ جلسنا نتجاذب أطراف الحديث مرت بحياتWWها أمامى في مراجعة جليلة آسرة.. الأصل بدوية محمد علي النيدانى من مواليد قرية المنزلة دقهلية وسجلت على أنها من مواليد الإسماعيلية يوم 22 فبراير 1919، عمها قُتل علي يد البريطانيين وحمل ثلاثة علي الأقل من أفراد أسرتها اسم «نضال» كما ذكرت بفخار، وقضي والدها بعض الوقت في المعتقلات.. وبدأت تصف أحاسيسها حول الرقص بأنها تؤديه كراهبة داخل معبد، وحقيقة كان جمال رقص تحية ينبع من ترابطه: الإحساس الذى كانت تبثه عبر جسد لدن متناسق وبديع، تتموج من خلاله سلسة رفيعة المستوى أشبه بفن الأرابيسك حيث لا تقفز أبدًا ولا تنخرط في حركات عنيفة، بل كان الأمر بأسره ينطوى على قصيدة مهيبة آسرة، حيث سحرها وألقها يوحيان بشيء كـلاسيكى وتذكارى احتفالى في الآن ذاته، وأتذكر بصورة خاصة أنها منذ الشروع في الرقص وحتى استكمال عرضها، كان ثغرها يفتر عن ابتسامة صغيرة تطفح علي الوجه المستغرق في تفكير ذاتى، وكأنها تتأمل رقصها ذاتياً، وتستمتع بحWWركاته، وكانت تلك الابتسامة تخرس أى بهرجة مسرحية مقترنة بالمشهد وبالرقص، وتطهرهما بفضيلة التركيز علي دواخلها العميقة وأفكارها الشاردة في النفس، والحق أننى وأنا أراقبها ترقص في خمس وعشرين أو ثلاثين من أفلامها التى كنت حريصاً علي تكرار مشاهدتها علي شرائط في الغربة، وجدت الابتسامة ذاتها على الدوام تضيء المشهد الذى قد يبدو سخيفاً ومصطنعاً عادة، ويشار إلي تحية كـ«عالمة» في أفضل وأحد أفلامها المبكرة وهو «لعبة الست» 1949 الذى قام ببطولته نجيب الريحانى، الأعظم بين الممثلين والكوميديين العرب في القرن العشرين، حيث يجمع مزيجاً رائعاً من شابلن وموليير، وفي الفيلم تلعب تحية دور راقصة شابة موهوبة مرحة يستغلها أهلها الأنذال للإيقاع بذوى النفوذ من الرجال، وقرابة الخمسينيات باتت تحية التجسيد المعيارى للمرأة الشيطان في عشرات الأفلام المصرية، وفي «شباب امرأة» يوجد مشهد رائع لا أنساه تقوم فيه تحية بانتزاع زوجها الشاب من حفل في شارع ترقص فيه راقصة شرقية شابة شدهت الطالب غير المجرب، وتأخذه تحية إلى بيتها وتجلسه، وتخبره بأنها ستريه الآن الرقص الحقيقى، وهنا تقدم له عرضا خاصا ينم عن غضب داخلى، ويبرهن أن تحية كاريوكا ــ بصرف النظر عن كونها وقتها في أواسط العمر ــ لاتزال الراقصة الأبدع، والذهن الأروع، والموضوع الأكثر تركيزا.. ومثل الكثيرين من المغتربين الذين شكلت تحية الرمز الحسى الكبير لشبابهم، افترضت ــ أنا ــ أنها ستواصل الرقص إلى الأبد، بهذا القدر أو ذاك، ولكم أن تتخيلوا الصدمة الأليمة التى منيت بها حين عدت فى زيارة قصيرة إلي مصر في صيف 1975 بعد غياب خمسة عشر عاما وعرفت في القاهرة أن العمل المسرحى الأطول عرضا والأكثر رواجا هو «يحيا الوفد» الذى تمثل فيه فاتنتى تحية كاريوكا وزوجها الأحدث فايز حلاوة كاتب النص.. وفى ليلتى الثانية في القاهرة قصدت سينما ميامى العتيقة، التي باتت مسرحا مكشوفاً، وأنا مفعم بمشاعر الترقب العاطفية المستثارة إزاء هذه الفرصة النادرة لاستعادة جزء من شبابي الدفين.. كانت المسرحية مفرطة في الطول حول مجموعة قرويين مصريين اندس بينهم وفد من الخبراء الزراعيين السوفييت، وبلا هوادة تعرض المسرحية جمود الروس «وكان السادات قد طرد جميع الخبراء الروس عام 1972» والمسرحية بدأت حوالي التاسعة مساء ولكننى لم أحتمل إلا ساعتين ونصف منها، أى حتى منتصفها، وكانت خيبة أملي بما آلت إليه تحية المدججة بوزن كبير وقد وقفت تعقد يديها حول خصرها لتقذف بالتوريات الرخيصة المنفلتة من أى عقال، وأحزننى أن تتورط تحية وزوجها في هذا النوع من النشاط.. وفى الأربع عشرة سنة التالية لتلك الرحلة كانت تصلنى شذرات المعلومات عن تحية منها على سبيل المثال ما حدثنى به عالم اجتماع مصري معروف من أنها كانت شديدة القرب من الحزب الشيوعى في الأربعينيات والخمسينيات، وسمعت أنها انضمت إلي جماعة من الفنانين والمثقفين الذين وافقوا على الانضمام إلى السفينة الفلسطينية «العودة» وبعد أسبوعين من العثرات المتواصلة قامت المخابرات الإسرائيلية بنسف السفينة وتم إلغاء المشروع، وسمعت بعدها أن تحية برزت كواحدة من قادة نقابة جريئة ومتقدمة سياسيا ضمت ممثلى ومخرجى ومصورى السينما.

كاريوكا التي هرعت للجراح الدكتور علي إبراهيم تشكو آلام المصران الأعور مرتعبة من التشوية الذى قد يظل ندبة ظاهرة في بطنها مسرح أكل عيشها، فقام بعمل جراحة مبتكرة سميت باسمها عملية كاريوكا، حيث لا يكاد الجرح فيها يظهر للعين المجردة، وكانت قد تعاقدت مع شركة فوكس للقرن العشرين في هوليوود لتلعب بطولة فيلم «أنا وملك سيام» لكن مرض والدتها أجبرها على العودة إلي مصر بعد عامين من عقد الاحتكار أجرت فيهما بروفة واحدة فقط فتركت أحلام العالمية، ولم تكن المرة الأولى التى عاشت فيها كاريوكا في هوليوود، فقد كانت الأولى عام 1946 عند زواجها من الليفتنانت كولونيل جلبرت ليفى الذي أشهر إسلامه، وأمام القاضي الأمريكى جوديوين نايت في مكتبه بالطابق الخامس عشر من مبني السيتى هول بـ«لوس أنجلوس» تم الزواج في حفل صغير وكان العريس فى زيه العسكرى الرسمى تلبية لرغبة العروس، وكتب العقاد وقتها يرد علي الشائعات الكثيرة التى تنتقد زواج مصرية بأمريكى قائلا: «لعلها مسألة ذوق قبل أن تكون مسألة أخلاق، والمسألة فيها ما يدعو إلي الأسف والمؤاخذة وفيها ما يدعو إلي الغبطة والارتياح، فمن دواعى الأسف أن يتمادى الناس في حب الثرثرة إلي الحد الذي يخلق لهم موضوع اهتمام، ومن دواعى الغبطة والارتياح أن يقال إن الراقصة التى صنعت هذا الصنيع لم تجد زوجاً من المصريين ووجدته بين الأمريكيين!».

ويعاود إدوارد سعيد سرده لواقع اللقاء الدرامى علي الطبيعة مع كاريوكا التي تلقت تعليمها علي يد بديعة مصابنى التي نصحتها بعدم التلكؤ أمام الملاهى بعد أداء وصلتها، وأضافت بكآبة أنها وجدت صعوبة بالغة في استخدام الصاجات، لكنها نجحت في ذلك بفضل بديعة المرأة التي تحدثت عنها بحب وتبجيل والتي كانت لا تكاد تبلغ مكتبها في موعدها تماماً حتي يهرول إلي الكواليس أحد السعاة صائحًا: «الست وصلت» ومعنى هذا أن يحترم كل واحد نفسه ويحفظ مركزه ويؤدي عمله علي أكمل وجه، ومن هؤلاء العاملين مع تحية وقتها فريد الأطرش ومحمد عبدالمطلب ومحمد فوزى وسامية جمال، وأكبر الرواتب لا يتجاوز 12 جنيها، وممنوع علي أى فنان مغازلة أى فنانة وإلا خصمت منه السِت بديعة أجر ليلة أو أجر أسبوع حسب حجم المخالفة: «حين حضر الشاى والبسكويت سألتها أن تتحدث عن حياتها السياسية، وكانت شروحاتها ذات أهمية فائقة لأننى أدركت للمرة الأولي أنها كانت علي الدوام جزءا من اليسار القومى، وأنها قد زج بها في السجن لأنها كانت عضوا في «رابطة السلام» إحدى المنظمات المرتبطة بموسكو في الخمسينيات، وسألت عن زوجها السابق فايز حلاوة الذى استدرجها لمسرحية «يحيا الوفد» فردت: لماذا ترانى أعيش هنا وليس في بيتى؟ لقد أخذ كل شيء حتى صوري وأفلامى... وسألتها لأبعدها عن الذكريات الأليمة حول الولايات المتحدة التي زارتها عدة مرات، وحدث مرة أنها جابت طول بلادها وعرضها في سيارة خلال رحلة عاطفية استطلاعية لاقت فيها من المتعة الكثير: «لقد أحببت البشر، ولكنى أكره الحكومة الأمريكية».. وكان الحديث مع هذه السيدة الوقور منعشاً للغاية، خصوصا بالنسبة إلي امرئ شب علي الأفلام المصرية من دون أن يعرف الكثير من خلفياتها، ومثّل له رقص تحية ذاكرة خصبة ولكنها غير مستكشفة نسبياً، وكانت ابتسامتها علي الدوام ذكرى تحمل معنى الرضا والتأمل والتفكير.. حديث طال بلا ارتواء حول سلسلة متنوعة هائلة من الموضوعات، روتها كاريوكا جميعاً بنبرة سخرية دافئة ومرحة وجذابة للغاية.. وعند نقطة معينة انقطع حبل الحوار.. توقفت عن الكـلام، وأغلقت عينيها، ومدت ذراعيها رافعة الراحتين إلي الأعلى، ورافقت المؤذن في ترديد ألفاظ الآذان.. وحين انتهت أمامى من ذلك سارعت أنا إلى طرح السؤال الملح الذي كنت لا آمل في إيجاد الفرصة المناسبة له، والذى حبسته في داخلي طويلا، وربما تمنيت في نفس الوقت ألاّ أسأله وألاّ تكون لديها إجابة عنه، بمعنى أن كل ما قيّل كان يدخل في نطاق الخيال وأنها لم تزل «لعبة» في «لعبة الست».. سألتها عن المحظور.. عن عدد مرات زواجها.. وجاء التحول في مظهرها صاعقا مرعبا فجائياً طاغياً متنمرا.. كانت قد فرغت لتوها من الدعاء لحظة الآذان حين تهيأت للإجابة عن سؤالى، فوقفت منتصبة وذراعها مائل نحوى باستفزاز، وقالت «مرات عديدة» وأعادت الجملة وكررتها، ثم اقترن صوتها بالصفاقة «في حياتى الكثير من الأزواج كلهم مجموعة من الأوغاد» وأعقبت قولها بشريط من الأوصاف المتباينة والصادمة ليكشف الانفجار الجبار عن شخصية مقاتلة أبعد ما تكون عن استسلام وركون سيدة مصلية وقور تعيش فى دعة وسَكينة بعيدة عن الناس، وإنما كائن متأجج انفعالي مستعد للانخراط في العشق من جديد.. في التربع من جديد علي عرش الحيوية لتخطف الأبصار»!..



دولة عظمى

وجدت قولا صادقاً على لسان نجيب محفوظ جاء في مذكرات الدكتور ثروت عكاشة بطل ثورة يوليو الثقافية.. إذ يقول: «لن نجد إنسانا مخلصا إلا وقد انقسم أمام عبدالناصر، لأن عبدالناصر زعيم وطنى عظيم له إيجابيات لا تُنسى، وسلبيات لا تُنسى. إذن فأى إنسان يقف أمامه حائراً، إذا ذكر إيجابياته يبكي عليه، وإذا ذكر سلبياته يتحسّر، وقد يطول لسانه بكلمتين. وأنا هنا لا أتكلم عن أعدائه، لأن أعداءه عندهم من الأسباب ما يجعلهم أعداء فقد نكّل بإناس كثيرين. أما نحن فلم ينكّل بنا بل علي العكس فقد أغدق علينا كل ما يمكن إغداقه إنسان من تكريم وأوسمة وخلافه، وفي جزء من عهده خيّل إلىّ أننى أعيش في دولة عظمى لدرجة استغربت معها كيف تولد دولة عظمى بهذه السرعة.. ومن أصعب المواقف التي صادفتنى في حياتى أزمة رواية «ثرثرة فوق النيل»، فلقد بلغنى أنها اعتبرت لدي السلطات وقتها تجاوزًا يجب تأديبي عليه، ولولا الدكتور ثروت عكاشة الذى كان وزيرًا للثقافة أيامها ودافع عنى عند عبدالناصر لكانوا قد عاقبونى فعلا».. ويؤكد الدكتور فؤاد زكريا دور عكاشة كوزير متفتح للثقافة بقوله: «إن الثقافة في عهد الثورة كانت في الواقع تشكل جزيرة منعزلة إلي حد ما عن بقية جوانب النظام، وكان ذلك يرجع أساساً إلى وجود شخصية قوية هى ثروت عكاشة، الذى كان من ناحية من أبرز الضباط الذين قاموا بدور أساسى في ثورة يوليو، ومن ناحية أخرى عاشقاً حقيقياً للثقافة متمكن بفضل نفوذه من أن يلقي ظلا من الحماية على المثقفين ويضمن لهم قدرا من الحرية ويحميهم من الشائعات والوشايات.. وأتصور أن هذه الشخصية لعبت دورا كبيرا في ضمان جو آمن إلى حد معقول للمثقفين».
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف