الأهرام
عزت السعدنى
هيلا ليصا.. صلى على النبى !
الذى نقوله اليوم.. قلناه وعدناه بالأمس وأمس الأول.. والأمس الذى مضى وفات حتى اننا لم نعد نعرف أى أمس هذا بين دفاتر الأمس القريب والأمس البعيد.. والذى بعدنا عنه أمسيات.. اكتملت أياما وشهورا بلا عدد.. وبلا حساب.. حتى اننا تعبنا من كثرة العد والحساب!

ماهو ياترى هذا الذى قلناه بالأمس وأمس الأول... والأمس الذى قبله.. والأمس الذى مضى وفات عليه امسيات بلا عدد وبلا حصر ضاعت وتبخرت من ذاكرتنا.. حتى اننا لم نعد نتذكر ماذا قلناه بالأمس القريب والأمس البعيد؟

قلنا وياما قلنا.. نريد أن تعود عجلة العمل إلى الدوران..

نريد موطفا على مكتبه فى ميعاده بالدقيقة والثانية.. نريد عجلة المصانع تدور من جديد..

نريد حبات العرق تزين جباه أصحاب البدل الزرقاء والنفوس الصافية والمحبين للعمل والجهد والانتاج.

نريد أن تعود أغانى فرق عمال التراحيل بتوع زمان.. وعمال البناء والتشييد القادمين من الصعيد الجوانى بحثا عن لقمة العيش فى البندر.. ماالصبح لحد الضهرية.. إيدى على ايدك يا اسطى عطية..

نريد أن نسمع أغانى الصعايدة والبحاروة وهم يشقون ويتعبون ويسكبون حبات العرق فوق محصول الزرع فى الحقول.. وفوق سقالات البناء فى القرى والمدن..

نريد أن نسمع من جديد أغنيات البناء والتشييد: هيلا ليصه هيلا ليصه،، صلى على النبى!

اسمعوا معى وتأملوا.. ما أجمله من نشيد.. انه نشيد الخير والبناء والرزق الحلال..

نريد أن يعود القطن المصرى إلى عرشه المفقود.. لتعود الزغاريد والأفراح فى البيوت لتحمر خدود البنات ويلعلع صوت الأولاد بالغناوى والآهات.. وتزغرد النساء وتتمختر الفتيات وهن يلبسن »اللى على الحبل كله« فى ليالى الأفراح والليالى الملاح..

نريد أن تعود حمرة الخجل والكسوف إلى خدود العرائس والعذارى فى ليالى زفافهن.. ودقى يا مازيكة نهاوند وسيكا.. وزغردى يا أم العروسة وافرح ياعريس وافرحى ياعروسة وقولوا لابوها يقوم بقى يتعشى بعد وصول ابنته بيت الزوجية!

.......................

.......................

دعونى اذكركم.. الذى نقوله اليوم.. قلناه بالأمس وأمس الأول.. والأمس الذى لم يعد أمسا.. بمرور الأيام وطابور الأمسيات..

ماذا قلنا ياترى.. وماذا عدنا؟

قلنا لانريد ان نقع فى أخطاء الماضى وخطايا من سبقونا وجلسوا على الكراسى.. كراسى الإدارة والإمارة والوزارة..

قلنا نريد أياد تعرق ونفوسا تسمو وتترفع وضمائر فى بياض اللبن الحليب كما كانت تقول جدتى لأمى..

قلنا: أيد تعمل بشرف وأمانة.. لا تتلكأ ولا تتلكع ولا تتباطأ ولا تتثاءب ولا تؤجل مصالح الخلق إلى الغد.. والغد لن يأتى إلا بهم جديد وشغل جديد.

لا نريد موظفين وعمالا ليس على لسانهم إلا: هات هات.. وليس فى قاموس حياتهم كلمات: خذ واشتغل وجاهد وانتج واسهر وأعمل وأعرق.. وحلل لقمة عيشك يكرمك المولى عز وجل وهى جملة سمعتها من عامل اسمه عبدالرحيم يعمل فى مصنع الغزل والنسيج فى المحلة الكبرى.. أيام كانت ملء السمع والبصر والعرق والرزق الحلال!

نريد أن نسمع من جديد ضجيج دولاب العمل وهدير ماكينات الغزل والنسيج.

نريد أن تلفحنا حرارة نيران أفران الحديد والصلب.. نريد أن نشم بخار ألواح الألومنيوم فى أدماغنا وأرزاقنا فى نجع حمادى.. يا له من عطر.. إنه عطر الخير والرزق الحلال

نريد أن تطربنا وتشجينا وتطربنا أصوات دوران دواليب ماكينات الغزل والنسيج فى مصانع كفر الدوار أو المحلة الكبرى

..........................

..........................

الذى نقوله اليوم.. قلناه ألف مرة ومرة فى ألف مناسبة والف حكاية والف موقف والف حادثة بالفرح أو الحزن.. وان كان بالحزن والدموع أكثر وأكثر.. لأن العالم المتربص بنا.. ربما لا يريد لنا أن نفرج.. وأن نسعد.. وأن نشبع..

قلنا.. وياماق لنا وزدنا وعدنا.. قلنا خذوا بالكم احذروا غضبة الغلابة المطحونين ساكنى عشش وخرابات وشبكات العنكبوت فى العشوائيات.. وما أدراك ما العشوائيات، لقد كتبت هنا مرات ومرات عما يحدث فى جبل الدويقة وكل أسرة محشورة فى حجرة واحدة.. لا تعرف ماذا يجرى داخلها وماذا يحدث؟.. لحم فوق لحم وجوع وعرى وبطالة تلحس بلاط السكك ولا أحد يدرى بأحد ولا أحد يسأل عن أحد.. وفى الصباح كل شىء يبان.. جوع وعرى وبطالة وانحراف موجود هنا وجريمة لا أحد يدرى عنها شيئا لايمحوها نور الصباح.. وانذار غير مكتوب من أصحاب العشوائيات إلى أصحاب المنتجعات..

غدا ينطلق الجوع والحرمان والفقر المدقع الذى نقرأ عنه فى كتب رجال المال والاقتصاد والمجتمع.. الذى سوف يزحف يوما ونحن عنه لاهون مبسوطون شبعانون إلى فيلات وقصور ومنتجعات الأغنياء وهم عنه لاهون..

كل هذا قلناه وعدناه ألف مرة ومرة، وأكثر منه قالته هنا بنت الرابعة عشر التى حملت سفاحا من أخيها أو من أبيها أو حتى من زوج أمها لافرق.. وكلهم تجمعهم حجرة واحدة يأكلون فيها ويبيتون كلهم فيها.. ولا أحد يعرف أبدا من الجانى.. فهى لن تتكلم ولن تقول.. ولكن الذى يعرف هو المولود الذى خرج إلى الدنيا فى الظلام.. ولكنه لم ينطق بعد!

ولكن الذى مازال مطبوعا فى ذاكرتى من كلامها: والنبى ياسعادة الباشا البت واللا الواد اللي بطني أكتبه باسم مين؟

وضع هنا ألف علامة استفهام وتعجب.. ولا تكفى!

وقلنا وعدنا.. ويا ما قلنا ويا ما عدنا.. عن التعليم وسنينه والفصول التي يحشرون فيها ما بين خمسين تلميذا وسبعين تلميذا ومدرس حاله أغلب من الغلب.. ولولا الدروس الخصوصية التى فى السر والعلن.. لمات هو وذووه وبنو جوعا وعريا..

حتي درجات الغياب التي حسبوها من عشرة لاعادة الانضباط لتلاميذ المدارس الثانوية لكنهم لغوها بعد مظاهرات بلا معني لتلاميذ وتلميذات ثانوي.. وابكي يا عين دما لا دموعا علي التعليم وسنينه!

لا تعليم في مدرسة.. ولا تعليم في جامعة.. وترتيبنا الآن في جدول دول العالم تعليما إذا أردتم أن تعرفوا.. في المركز 149 من 150 دولة يعني قبل الأخير.. وابكي يا عين دما وليس دموعا.. علي التعليم المصري وسنينه السوداء!

لا تعليم في مدرسة نافع ولا في جامعة نافع ـ كما قال لي أب أربعة أولاد وبنات في المدارس والجامعات ـ التعليم دلوقتي يا باشا بالفلوس.. اللي معاه فلوس ابنه يزمر يعني يتعلم.. في المدرسة بالدروس الخصوصية وفي الجامعة بالدفع بآلاف الجنيهات بالدولار في الجامعات اياها..

ولكن أولاد الآه من الغلابة الذين لا سند لهم ولا ظهر ولا حتي باب رزق... لا حول لهم ولا قوة.. واسألوا طوابير الشباب المترصصين علي المقاهي؟

فأبواب العمل موصدة بالضبة والمفتاح.. والله يرحم أيام زمان عندما كان خطاب التعيين يسبق أحيانا شهادة النجاح.. أو حتي في قدميها.. كانت أيام!

دلوقتي يا باشا ـ قال لي أب لأربعة صبيان وبنات تخرجوا كلهم في الجامعات ومازالوا قابعين في الدار.. بلا عمل: نعمل ايه يا باشا نخرطهم للوز!

....................

.....................

لقد قلنا وزدنا وعدنا مرارا وتكرارا حتي تعبنا من طول ما قلنا وما زدنا وما عدنا..

قلنا ويا ما قلنا.. اننا نعيش معركة طويلة وصعبة دموية مع الارهاب وسنينه وأذنابه.. ولن نهدأ حتي نقطع دابره أي الارهاب ودابرهم.. أي الارهابيين.

وكل يوم نقتل ونصفي ارهابا ونصفي ارهابيين.

والحمد لله جند مصر من قواتنا المسلحة آخر يقظة.. وآخر صحصحة.. ومعهم شرطة مصر.. ولكن الدماء أصبحت الآن تلطخ كل رمال سيناء.. ومعها دماء شهدائنا.. ولكم أبكتني ابنة قاض دفع حياته ثمن ذهابه إلي العريش لكي يقوم بواجبه في انتخابات مجلس النواب عندما قالت: يا ريته ما راحش!

لقد قلنا وعدنا وزدنا: مادام هؤلاء المرقة الكفرة من داعش وتوابعها.. الذين يفجرون أنفسهم في الناس الغلابة.. فلماذا نقدم لهم أبناءنا كضحايا علي مائدة قرابين الانتخابات.. ونحن نعرف مقدما أنهم قتلة مرقة لا يعرفون دينا ولا يقيمون وزنا لتراب وطن أو أسرة أو حياة انسان بل يفجرون أنفسهم ـ ما اعرفش ازاي؟ ويموتون من أجل قضية خاسرة في الدنيا وفي الآخرة!

.................

.................

قلنا وزدنا وعدنا.. ويا ما قلنا ويا ما زدنا ويا ما عدنا..

قلنا إن الذي يخطيء في هذا البلد لابد أن يعتذر وزيرا كان أو كبيرا أو في أي منصب كان.. ورحم الله امرؤا عرف قدر نفسه.. واعتذر عن فعل ارتكبه أو قول جاء علي لسانه أو خطأ وقع فيه.. أو قرار اتخذه ـ والكلام لعمنا وتاج راسنا كلنا كاتبنا الكبير عباس العقاد بقلمه وبكلماته..

وعلي نفس الدرب قال عمنا ومعلمنا الدكتور طه حسين عميد الأدب العربى عندما كان وزيرا للمعارف وأعلنوا رسوب تلميذ في رابعة ابتدائي ـ يعني فى شهادة الابتدائية وهو ناجح: الخطأ الأكبر ليس أن نخطيء مرة.. ولكن أن نتمادي في الخطأ!

طيب قال لي موظف علي المعاش مازال يحتفظ بخفة دمه من أيام الرخص ـ برفع الراء وسكون الخاء والصاد: شايف حضرتك واحد من الوزراء المبجلين رد علي سؤال مواطن بقوله: السعه علي قفاه!

بالذمه: هل هذا رد وزير علي مواطن؟

نفس الشيء قلنا وعدنا وزدنا عن منظومة الأمن.. صحيح أن رجال الأمن يبذلون أقصي ما عندهم من جهد لمنع حوادث الارهاب والتفجيرات وزرع القنابل الموقوتة التي قد تقتل طفلا لا ذنب له أو إمرأة تحمل طفلا علي كتفها ويلتصق بيدها آخر يمشي وفي بطنها طفل لم ير النور بعد.. نحن حقا نعذرهم..

ولكن ان ينقض ضابط شرطى على سجين لا حول له ولا قوه ويضربه حتي الموت.. هذا هو الجنون بعينه!

ايضا أزمة الطائرة الروسية التي وقعت فوق أرضنا وشتت أحوالنا.. تشير ـ كما يقول صديقنا الدكتور جمال عبد الجواد في الزميلة الوطن ـ إلي أن أجهزة الأمن رغم كل انجازاتها واتقانها تترك وراءها ثغرات تسمح بنفاذ المجرمين ـ ولا يوجد جهاز أمن قادر علي سد كل الثغرات.. وما حدث في باريس خير شاهد ولكن هناك فرق بين أن يقتل الارهابيون الناس علي المقاهي وفي ملاعب الكرة وفي المسارح.. وبين اختراقهم أمن مطار بحاله يطبق فيه أقصي درجات التأمين ضد الاعيب ومصائد الارهاب الاسود..

اسمحوا لى أن أحكى لكم هذه الحكاية.. حتى أزيل بعضا من الغم والهم والاكتئاب التى أكاد ألمح علاماتها على وجوهكم..

لقد حدثنى صديقى العزيز المفكر فكرى اندراوس وهو مصري صميم من أقباط صعيد مصر يقيم فى أمريكا منذ أكثر من ربع قرن والذى أنزل عنده فى بيته فى ستانفورد بالقرب من نيويورك فى كل مرة أزور أمريكا وما أكثر ما زرتها.. بهذه الحكاية الطريفة..

قال: لأن العامل المصري يمتاز بالقوة والحكمة والضمير فى العمل فقد استدعى رجل أعمال أمريكى نفر من صعايدة مصر الشداد من عمال البناء...

وفى يوم طلبت منه إحدى الكاتدرائيات المسيحية هنا أن يقوم هؤلاء العمال بالمساهمة فى بناء كنيسة فى هيوستون..

وبالفعل شمر الصعايدة المصريون عن سواعد الجهد وراحوا يعملون بكل جهد وهم يرددون أغانيهم فى أثناء العمل وفى مقدمتها بالطبع:

»هيلاليصا.. صلى على النبى«..

ولكن راعى الكنيسة تساءل: كيف يبنون كنيسة تمجد السيد المسيح وهم يصلون على النبى محمد؟

وطلب منهم راعى الكنيسة أن يرددوا أناشيدهم أثناء العمل دون الصلاة على النبى!

واحتار العمال الصعايدة.. ماذا يفعلون وهم لا يعرفون كيف يعملون دون حماس ودون أغانى تحمسهم للعمل فماذا فعلوا؟

يقول عمنا فكرى أندراوس وهو غارق فى الضحك:

كتبوا على حائط أمامهم عبارة: »صلوا على النبى«.. ثم راحوا يعملون وهم يرددون:

هيلاليصا.. بص على الحيطة.. هيلاليصا بص على الحيطة{!
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف