السفير معصوم المرزوق
مطارات ودبلوماسية وقنابل !
كنت فى مهمة دبلوماسية خاصة أحمل حقيبة دبلوماسية حين مررت بتلك التجربة فى مطار مونتريال فى خريف عام 1987، وهذا النوع من المهام قد انقرض إلى حد كبير ولكنه كان إحدى وسائل التواصل مع بعثاتنا فى الخارج ، حيث يقوم حامل الحقيبة الدبلوماسية بالمرور على عدد متجاور جغرافياً من تلك البعثات كى يسلم باليد كل بعثة خطابات على درجة عالية من السرية لا يؤتمن على إرسالها عبر الحقيبة الدبلوماسية غير المصحوبة.
والحقيبة لها مواصفات معينة ، وتكون ثقيلة خاصة فى بداية الرحلة، ويجب أن تظل ملاصقة لحامل الحقيبة طول الوقت حتى فى أثناء النوم، ولذلك تقوم وزارات الخارجية بوضع خطاب يرفق على الحقيبة بشكل ظاهر يخاطب سلطات الدول المختلفة ويحدد أن هذه الحقيبة هى حقيبة دبلوماسية لا يجوز فتحها . عندما كنت فى الطابور لاحظت أن أمامى سيدة شقراء عجوزا تلتفت وتنظر إليً وإلى الحقيبة الدبلوماسية بريبة ، وكنت أبتسم لها مجاملاً كلما التقت عيوننا، ولكنها لم تكن ترد المجاملة ، وعندما اجتازت بوابة التفتيش لم تواصل سيرها إلى قاعة السفر مثل باقى الركاب ولكنها وقفت تنظر وتنتظر متحفزة .. وكالعادة مرت الحقيبة الدبلوماسية فوق السير، وعندما طلبت الضابطة الشابة أن أفتحها لها، اعتذرت مشيراً إلى الخطاب المرفق بالحقيبة ، ولكن فيما يبدو أنها كانت حديثة التعيين أو لم تمر عليها حقيبة دبلوماسية من قبل ، واضطررت إلى أن أشرح لها بالتفصيل طبيعة مهمة حامل الحقيبة ، والعرف الدولى فى هذا الشأن، وبالطبع أدى ذلك إلى تعطل حركة الطابور وتأفف البعض ، وعندما أوشكت الضابطة الشابة أن تقتنع فوجئت بالسيدة العجوز التى كانت تراقب من قرب تصرخ بأسلوب مبالغ فيه وتطالب بضرورة تفتيش حقيبتى وتغمغم بأن الإرهابيين فى كل مكان ..
فوجئت بأن الضابطة التى كانت على وشك الاقتناع، تتصلب وتصر على فتح الحقيبة ، وفى نفس الوقت كانت السيدة العجوز قد نجحت بصياحها فى لفت النظر وبالتالى انضم إليها ركاب آخرون يطالبون بضرورة فتح حقيبتى الدبلوماسية ، فى البداية حاولت أن أشرح لهم طبيعة المهمة ، ولكننى فكرت فى أن ذلك سوف يزيدهم تشدداً ويزيد الأمر تعقيداً ، من ناحية أخرى كنت أعرف أن محتويات الحقيبة لا تزيد عن كونها مغلقة بها خطابات ، وخطر لى أن أفتح الحقيبة بالفعل كى ينتهى ذلك الموقف السخيف، ولكننى شعرت بالغضب من التعليقات التى واصلت تلك السيدة العجوز الصياح بها، وخاصة عندما تحدثت بشكل غير لائق عن أهل الشرق الأوسط والعرب ، وكان الجميع قد عرف أننى دبلوماسى مصرى ، وجدت نفسى أصمم على أننى لن أفتح الحقيبة ، وأن حقى القانونى هو أن تحترم سلطات المطار ذلك العرف الدبلوماسى القديم ، وطلبت من الضابطة الشابة أن تتصل برئاستها ، ورفضت طلبها أن أتنحى جانبا إلى نهاية الطابور ، وقلت لها بوضوح إنها لا تفهم عملها وإننى لن أتحرك من مكانى إلا بعد وصول مسئول أعلى.
ومرت دقائق ثقيلة قبل أن يصل ضابط سمين أبيض يتصبب عرقاً ، وكان يلهث بينما الضابطة تشرح له ، بل وتدخلت السيدة العجوز أيضاً، سألنى الضابط بنعومة عما إذا كنت أصر على عدم فتح الحقيبة ، وبالتالى أتحمل مسئولية عدم سفرى على الطائرة ، فأجبته بشكل حاسم بأن الطائرة لو فاتتنى فأننى أحمل سلطات مطار مونتريال المسئولية، وأطلعته على الخطاب المرفق مع الحقيبة ، وكان من الواضح أنه يدرك أحقيتى فى رفض فتح الحقيبة ولكنه كان يحاول إرضاء باقى الركاب خاصة السيدة العجوز الملعونة ، وعندما لاحظت تردده ، كررت عليه تحذيرى وبشكل قاطع بأننى أحمله مسئولية تأخيرى ، فأشار بيده سامحاً لى بالمرور دون تفتيش.
كانت السيدة العجوز قد توجهت لتجلس فى ركن من قاعة الانتظار ، فاتجهت إليها وجلست إلى جوارها مباشرة ، وهمست لها من بين أسنانى متصنعاً الجدية :« على فكرة، أنا أحمل قنبلة فى الحقيبة»، تراجعت السيدة فى مقعدها منزعجة وهى ترتجف وتطلب منى الإبتعاد عنها، ولكننى ابتسمت وبدأت أوجه لها أسئلة عن أسباب هذه الصورة الذهنية عن العرب والمسلمين، ودار حديث طويل بيننا لا مجال له هنا ، المهم هو أنه عندما كنا نتوجه معا لركوب الطائرة كنا نضحك وكأننا صديقان حميمان وسط دهشة باقى الركاب ...
بعد هذه الواقعة بعشرين عاماً كنت ضمن وفد دبلوماسى مصرى فى مهمة إلى واشنطن، وبالطبع كانت مياه كثيرة قد جرت تحت الجسور خلال تلك السنوات ، أبرزها بالطبع العملية الإرهابية الضخمة التى استخدمت فيها الطائرات المدنية لهدم برجى التجارة العالميين فى نيويورك ، وجزء من مبنى البنتاجون فى واشنطن. وبعد أن انتهينا من مهمتنا فى واشنطن، توجهنا ومعنا بعض ممثلى السفارة إلى المطار للمغادرة عائدين إلى مصر، وقد حرصت الخارجية الأمريكية على أن يرافقنا دبلوماسى أمريكى كى يساعد فى تيسير الإجراءات ، بعد أن شكونا فى أثناء المباحثات ما حدث عند وصولنا من تأخير فى إجراءات المطار ..
مررنا عبر بوابة التفتيش واحداً إثر الآخر ، بعد أن خلعنا كل ما يمكن أن يتسبب فى صفير جرس الإنذار ، إلا أن أحد أعضاء الوفد وكان سفيراً محترماً كلما مر من البوابة يصفر جرس الإنذار، فطلبوا منه العودة وخلع الجاكيت والحزام ، إلا أن الجهاز أصدر جرس الإنذار ، وعاد مرة أخرى وطلبوا منه خلع الحذاء ، فخلعه ولكن الجهاز واصل الطنين، والزميل العزيز يتصبب عرقاً بينما ضابط زنجى ضخم يقوم بتفتيشه ذاتياً ، قلت لأعضاء سفارتنا أين هو ممثل الخارجية الأمريكية كى يتدخل ، فأشاروا إليه فوجدته يخلع ملابسه ويخضع لتفتيش ذاتى عندما أراد أن يدخل للمساعدة ، وتأزم الموقف حيث لم يعد للسفير العزيز ما يمكن أن يخلعه ، ولا يزال الجهاز يصفر كلما مر من البوابة ، ورغم الضيق وجدت نفسى أغرق فى الضحك ، وقلت للضابط الزنجى : «أظن أن الممنوعات تتركز فى رأسه ، فى أفكاره ، ولا أعرف كيف يمكن نزع هذه الأفكار» .. ويبدو أنه استملح النكتة ، فقد ابتسم وهو يفرك فروة رأسه متحيراً، وربما اقتنع بالفعل بأن «الممنوعات» هى الأفكار فى رأس زميلى العزيز، حيث فوجئنا به يسمح له بالمرور وهو يدق بكفيه متعجبا..