الأهرام
محمد عبد الفضيل القوسى
ثُمّ .. ماذا أيضًا عن العَلْمَانِية ؟
يُعلمنا درس التاريخ الفكرى أن العَلْمَانِية ـ قديمها وحديثها ـ لا تنبت ولا تترعرع إلا فى أرض قد اهتزت فيها (أسس) الحقائق الثابتة، وارتجَّت ركائزها العقلية الفطرية الراسخة، وحينئذ ـ وبالتبعية ـ يهتز كامل البنيان الفكرى والدينى والأخلاقى بأسره؛ وترتد الجماعة الإنسانية ـ آنئذ ـ إلى متاهات الشك العقيم والارتياب الرِّجْرَاج، حيث القضاء المُبرم على كل ثوابت العقل التى بها يكون الإنسان إنسانًا، بل حيث يمكن أن يكون الأمر الواحد ونقيضه حقًا وباطلًا معًا، وصحيحًا وفاسدًا فى آن واحد،

فقد أمسى (الحق) لديهم خواءً وسرابًا، وافتقد العقل البشرى ما يعتصم به عن النسبية والذاتية والزئبقية، ليمسى فضاءً مشاعًا بلا تخوم؛ فَتَسَاوى لديه إثبات الألوهية وإنكارها، وحقيقة الشرائع وبطلانها؛ وبهذا نكصت البشرية على أعقابها عائدة القَهْقَرَى إلى ضروب مستحدثة من (السوفسطائية) التى طالما أعرضت البشرية عنها ونبذتها وراء ظهورها منذ فجر التاريخ، ولاذت بثبات الدين والعقل جميعًا، لكى تبنى حضاراتها ـ الطريف منها والتليد ـ على الحقائق والثوابت، بمنأى عن موجات الشك وزوابع الارتياب، وليس ببعيد عن صورة العَلْمَانِية: ذلك التصوير الساخر الذى قدمه (أريستوفان) فى مسرحيته الشهيرة (السحاب) لأولئك السوفسطائيين، وهم يُعلّمون الشباب ـ اتِّباعًا لمنهجهم ـ كيف يتملصون من رد ديونهم إلى دائنيهم بالاستخدام الفج لألعوبة (عدم ثبات الحقائق) المؤدية إلى ثبات الشيء ونقيضه معًا!!

بيد أن التاريخ البشرى لم يَخْلُ يومًا عن مقاومة تلك الموجات الارتيابية العارمة، وإلا فماذا تكون جهود الفلاسفة العظام ـ منذ سقراط وأفلاطون وأرسطو ـ فى الذود عن (ثبات) حقائق الأشياء، سواء بنظريات (التعريف) الأرسطية (حدودًا ورسومًا)، أو بعالم (المُثُلْ)الأفلاطونية الذى ترتفع فيه حقائق الأشياء إلى عالم متعالٍ على التغير والصيرورة، أو بالنظرة الإسلامية العقدية القائمة على مقولة عتيدة مكينة، هى (أن حقائق الأشياء ثابتة والعلم بها متحقق) تلك المقولة التى كانت كتب العقائد تجعلها نقطة البدء الأولى التى تنطلق منها إلى عقائد (الإلهيات) ثُمّ (النبوات)، وما سواها؟

بل أضيف إلى ذلك أن آثار التاريخ البشرى المادية المحسوسة الباقية حتى الآن التى جَسَّدت بها البشرية معبوداتها المادية: إنما كانت تعبيرًا ـ وإن كان مغلوطًا ـ عن نُشْدانها (للثبات) واستمساكها (بالكينونة) حتى وإن كانت معبوداتها ـ تلك ـ شائهة وزائفة؛ وهو الأمر الذى تكفَّلتْ الأديان السماوية المُنَزَلة المتتابعة، والفلسفات العقلية الرصينة بتصحيحه وتنزيهه، وإعادته إلى جادة الصواب، وحاقِّ الحقيقة.

ومهما يكن من شيء فلقد ذاقت البشرية ما ذاقت من الأصل والفرع جميعًا، أعني: نسبية الحقيقة، و(علمانية) الاتجاه؛ فما أيسر أن ترى آثار ذلك الأصل والفرع جميعًا فى قهر الشعوب المستضعفة، والبغى على مقدراتها، بالرأسمالية المتوحشة حينًا، وبالاستعمار بكل صنوفه حينًا، وبالحروب الكونية حينًا، وبأسلحة الدمار الجزئى والشامل حينًا، وغيرها من أشباهها ونظائرها؛ تلك التى أوشكت أن ترتد ببنى البشر إلى ما يشبه البدائية الأولى: سَحْقًا للبؤساء، وقهرًا للضعفاء، وانتصارًا لقانون الغاب ـ إن كان للغاب قانون، ثُمّ يحدث هذا فى عصر الثورة المعلوماتية، والتقدم التكنولوجي، والاكتشافات العلمية!!

وما أيسر أن ترى مع ذلك ـ وقبله وبعده ـ القيم المُثلى والمقدسات الرفيعة وقد داستها أقدام القوة الباطشة (لعلمانيات شتى) لا تختلف مخبرًا وجوهرًا، وإن اختلفت شِيَاتُها واتجاهاتها، وكيف لا .. وقد أَعْدمت تلك العلمانيات (الحقائق المطلقة) إعدامًا، وأعدمت معها ـ وفى القلب منها ـ مُطلقية القيم الانسانية الرفيعة ـ الحق والخير والجمال ـ التى تتطهر بها إنسانية الإنسان من غرائز المقاتلة، وشراهة الأنانية، وطغيان الفردية، فأمسى العالم عالمًا يكون للحق فيه ألف ميزان وميزان، وللخير فيه ألف معيار ومعيار، وللجمال الخلقى فيه ألف مقياس ومقياس؛ ثُمّ يوضع لكل إعوجاج: قانون، ولكل ظُلمٍ تشريع، ولكل قُبحٍ استحسان؛ وتعانى البشرية البائسة من جَرَّاء ذلك: الشر المُستطير، والبلاء المُبين!!

وكيف لا ايضًا .. وقضية (الألوهية): هى أساس (المُطلقات)، التى يَنْشُد فيها البشر إصلاح المُعْوَجّ، ويرون فيها تباشير الأمل فى مستقبل أكثر إشراقًا، وأعمق معنى، وأعظم قيمة؛ كما يرون فيها الخلاص الأكبر من هذا الاضطراب الكونى والاجتماعى والسياسى الذى يُحِيط الكون بغلالات سوداء من الحيرة والاضطراب، ويدفعهم دفعًا إلى أن ينشدوا (الخلاص) و(الأمل) و(المعنى) فى عالم (الألوهية) حيث تكون البشرية أمام الموازين القسط، فلا تُظلمُ نفسٌ شيئا؛ وإلا أصبح (اليأس) هو صاحب الكلمة الأقوى فى دنيا الناس، فأين الخلاص، وإلى أين المفر، وإلام المُلْتَجأ؟

ثُمّ أقول أخيرًا .. إن (الحقائق) المُطلقة ـ وفى مقدمتها حقيقة (الألوهية) ـ ليست من صنع الإنسان، ولا من بنات أفكاره؛ وكذلك الحق، والخير، والجمال؛ وهل شاعت مظاهر القبح، والشر، والفساد، فى بنى الإنسان، إلا لأنهم هدموا (مُطلقاتها)، واصطنعوا (مقاييسها) بأهوائهم ونسبيتهم؛ مما عاد على البشرية ـ وسيعود عليها ـ بمزيد من التشظِّى والتشرذم والدمار؛ فيا ليت قومى يعلمون!!
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف