جمال عبد الجواد
دفاعاً عن البرلمان والأحزاب
انتهت انتخابات مجلس النواب باستثناء الدوائر القليلة التى سيتم إعادة الانتخابات فيها بعد الحكم ببطلانها. استحواذ المستقلين من النواب على أغلبية مقاعد المجلس ليس مفاجئاً، لكن المفاجأة هى العدد الكبير من المقاعد التى فاز بها المرشحون الحزبيون. النجاح الكبير الذى حققه مرشحو الأحزاب قوبل بأسئلة كثيرة ومشروعة حول جدية الانتماء الحزبى للنواب الناجحين تحت لافتات حزبية، خاصة أنه لم يلاحظ أن أياً منهم استخدم خطاباً سياسياً حزبياً أثناء الحملات الانتخابية، وما إذا كانت الهيئات البرلمانية للأحزاب الجديدة تزيد على كونها تجمعاً من أصحاب المصالح الذين جذبتهم أموال الأثرياء الداعمين لهذه الأحزاب، وما إذا كان نواب تم جذبهم للترشح باسم أحزاب لم ينضموا لها قبل ذلك يمكن أن يشكلوا كتلاً برلمانية فعالة داخل البرلمان بكل ما يأتى مع عضوية البرلمان من ضغوط وإغراءات. الأسئلة مشروعة، لكن المسارعة بتقديم إجابات نهائية عنها فيه تسرع واستباق للأحداث، والمؤكد أنه بعد نجاح الأحزاب الجديدة فى اجتياز اختبار الانتخابات بنجاح، فإنه سيكون عليها اجتياز اختبار التماسك داخل البرلمان.
المشككون فى فعالية الأحزاب وتماسكها يتوقعون انصرافاً سريعاً لنواب الأحزاب عنها والتحاقهم بالكتلة المؤيدة للرئيس والحكومة المتمثلة فى قائمة «فى حب مصر»، وأن نوعاً من الحزب الوطنى الافتراضى سيتشكل داخل البرلمان، ليتقلص تأثير الأحزاب إلى الحد الأدنى، ولنعود إلى الحالة التى كنا عندها قبل الخامس والعشرين من يناير. ما لا يلاحظه هؤلاء هو أنه لن يكون من الممكن استمرار نفس الآليات القديمة فى غياب شروطها، فالإطار التنظيمى الذى مثله حزب رئيس الجمهورية لم يعد موجوداً، ولم يعد هناك كمال الشاذلى أو أحمد عز ليصدرا التعليمات للنواب برموز وإيماءات متفق عليها، ولم تعد السلطة تستطيع التحكم فى إنجاح النواب أو إفشالهم فى الانتخابات التالية بعد الإصلاحات التى تم إدخالها على النظام الانتخابى. فى غياب كل هذا سيكون من الصعب إعادة تشكيل أغلبية مضمونة مؤيدة تلقائياً للسلطة التنفيذية، الأمر الذى يسمح للأحزاب السياسية بلعب دور معتبر فى البرلمان المقبل.
البرلمان الجديد مفتت ولا توجد فيه أغلبية واضحة، ولكن ستوجد فيه أغلبية متحركة تتشكل فى كل مرة من ائتلافات مؤقتة حسب القضية موضع النقاش، وهذا وضع إيجابى وحيوى لا يجب أن يثير قلقنا بعد سنوات قليلة خبرنا فيها ما يحدث عندما تضمن السلطة التنفيذية وجود أغلبية مضمونة مستعدة لمساندتها فى كل ما هو مهم وتافه من الأمور. التفاوض حول كل القضايا مهما قل شأنها سيكون هو السمة المميزة لهذا البرلمان، وهو أمر جيد ونقلة كبيرة للأمام فى بلد اعتادت فيه السلطة التنفيذية إصدار إملاءات يقبلها النواب وينفذونها بالتزام دقيق.
التفاوض فى البرلمان المقبل لن يقتصر فقط على التفاوض بين الحكومة والنواب، ولكنه سيشمل أيضاً التفاوض داخل الأحزاب السياسية الجديدة. فأغلب النواب الممثلين لهذه الأحزاب جاءوا من خارج دائرة الأعضاء المؤمنين بأفكار الأحزاب وبرامجها، ولا يوجد دليل على أن تفاوضاً حول السياسات والبرامج قد سبق ترشح النواب تحت لافتات هذه الأحزاب، الأمر الذى سيكون على الأحزاب والنواب تداركه الآن. والمرجح أن هوية وبرامج الأحزاب السياسية الجديدة وسياساتها ستعاد صياغتها تدريجياً من خلال عملية التفاوض التى سوف تبدأ مع بدء عمل البرلمان، وأن مركز الثقل فى رسم سياسات الأحزاب وتحديد مواقفها سينتقل تدريجياً من القيادات المؤسسة للأحزاب لممثليها فى البرلمان.
المشككون فى فعالية الأحزاب الجديدة يرون أن النواب الممثلين لهذه الأحزاب سينحازون للحكومة والرئيس بمجرد ظهور بوادر للخلاف بين أحزابهم والحكومة، وأن تأييد النواب الحزبيين للحكومة والرئيس يكاد يكون أمراً مضموناً وأوتوماتيكياً، وأن التشكيلة الحالية للبرلمان تجعله برلماناً ضعيفاً فى علاقته بالحكومة والرئيس، وأن تمثيل الأحزاب فى البرلمان لن يكون له أى أثر مهم فى خلق نوع من التوازن بين السلطتين التشريعية والتنفيذية. المؤكد أن الغالبية من نواب البرلمان -بما فى ذلك النواب الحزبيون- يتفقون على دعم النظام السياسى القائم، بما فيه من مركزية منصب رئيس الجمهورية، وخصوصية دور الجيش وموقعه فى النظام السياسى، ومركزية المواجهة مع الإرهاب والتطرف. تأييد الأحزاب للرئيس والحكومة فى هذه القضايا يكاد يكون مضموناً، لكن فيما وراء ذلك تبقى مساحة كبيرة للاختلاف بين الفريقين فى قضايا عدة تشمل سياسات التنمية والإصلاح الاقتصادى والإدارى، بما فيها دور القطاع الخاص والضرائب والدعم وإصلاح الجهاز الإدارى للدولة وبعض قضايا الحريات العامة والشخصية. الاتفاق بين الأحزاب والرئيس على الأسس العامة للنظام السياسى يضمن للبلاد استقراراً سياسياً ضرورياً، فيما الخلاف حول ما عدا ذلك من قضايا ضرورى لإكساب النظام السياسى حيوية وتعدداً يضمنان له توسيع طاقته على استيعاب وتمثيل قوى وآراء سياسية متنوعة، وستبقى هذه الإمكانية قائمة طالما قبل أهل الحكم بالتمييز بين قضايا النظام السياسى الرئيسية من ناحية، وقضايا السياسات العامة التى يمكن الاختلاف بشأنها من ناحية ثانية. أما إذا تجاهل أهل الحكم هذا التمييز، وتعاملوا مع جميع القضايا بنفس القدر من الأهمية، ووضعوها جميعاً تحت لافتة قضايا الأمن القومى الفضفاضة التى يعتبر الاختلاف على أى منها انشقاقاً يستوجب معاقبة المتورطين فيه، فعندها لن يبقى للأحزاب دور، وسنجد ممثليها فى البرلمان ينصرفون عنها منحازين لدولة يخشون بطشها بقدر ما يتمنون رضاها.