الأهرام
جابر عصفور
التحديات الأربعة
لن تتحقق الصورة الوردية التى يحلم بها الرئيس السيسى لمصر التى يريد أن يجعلها «أد الدنيا» إلا بتفاعل كامل بين الرئيس والشعب، أو الشعب والرئيس فى تأسيس حياة ديمقراطية سليمة، تتحقق لها شروط الديمقراطية الشاملة ولوازم المواطنة الكاملة، وذلك لكى يستطيع الرئيس والشعب أن يواجهوا التحديات الأربعة الصعبة التى تهددنا، حتى لا يتحول حلم الرئيس الذى هو حلمنا إلى كابوس مخيف. لقد عاهدنا الرئيس السيسى على استكمال خاريطة الطريق الجديدة لمستقبل مصر الواعدة، وقد انتهينا تقريبا من استكمالها، وقريبا سيكون لنا مجلس نواب يمثل الشعب، وينوب عنه فى محاسبة الحكومة والرئيس على السواء. وأيا كانت السلبيات التى شابت الانتخابات البرلمانية، من تدخل المال السياسى والعصبية العائلية أو القبلية، فضلا عن العصبية الدينية التى لا تزال متجذرة فى بعض طبقات الوعى الدينى للمصريين، فإن النتيجة النهائية للانتخابات مرضية بوصفها بداية ــ مجرد بداية- لحياة ديمقراطية سليمة، خصوصا فى شعب لا يزال يعانى بقايا الدولة التسلطية التى لا تزال راسخة، ومنذرة بالخطر إذا ظلت كما هى، ولم تقض عليها الحياة الديمقراطية السليمة التى ليست مسئولية عبد الفتاح السيسى وحده، وإنما هى مسئوليتنا جميعا: رئيسا وحكومة وبرلمانا وشعبا. وأعتقد أننا إذا مهدنا الطريق لإقامة حياة ديمقراطية سليمة، سنكون خطونا الخطوة الأولى فى طريق التنمية الشاملة التى تحقق حلم مصر المستقبل التى سوف تكون «أد الدنيا».

ولكى نحقق هذا الحلم ــ بعد إقامة حياة ديمقراطية سليمة، ومن خلالها- لابد من مواجهة أربعة تحديات، إذا نجحنا فى مواجهتها حققنا حلم مصر المستقبل، بإذن الله، ورغم أنف أعداء الداخل والخارج. أما التحدى الأول فهو التحدى العسكرى، فمصر للمرة الأولى فى تاريخها تواجهها المخاطر من الجنوب والشمال والشرق والغرب، فضلا عن المخاطر التى تقع بعيدا عن حدودها، ولكنها تهدد أمنها الداخلى وشريان حياتها فى آن. وليس هناك خلاف بين الدولة والمواطنين على الأهمية القصوى لبذل كل غال ونفيس ليظل لجيشنا الوطنى تميزه وقدرته على المبادأة والقدرة على المفاجأة والعمل فى أكثر من جبهة؛ فالجيش بهذا المعنى درع الوطن وسيفه، وضمان قدراته للوطن كله وبالوطن كله. وأنا مع الذين ينادون بأن يتفرغ الجيش المصرى لمواجهة كل ما يهدد الوطن من الخارج، وصيانة استقلاله، وتأمين حدوده، وتطوير قدراته القتالية. أما شغل الجيش، أو بعض أجهزته بما ليس من عمله أو من صميم اختصاصه، فهذا ما قد يُشغل الجيش عن بعض مهامه الرئيسية. وهو فى حد ذاته علامة خلل فادح فى أجهزة الدولة الأخرى التى تعجز عن القيام بما ينبغى أن تقوم به وإلا كانت أجهزة فاشلة فاسدة مفسدة لابد من محاسبة القائمين عليها فى شرف ونزاهة وحسابهم العسير أمام مجلس الشعب الذى اقتربت أيام جلساته وممارسة دوره الرقابى.

أما التحدى الثانى فهو التحدى الأمنى. وهذا التحدى لا يشمل عمل وزارة الداخلية، وإنما يجاوزه إلى القضاء والقوانين التى تراكمت وتشابكت وتداخلت وتناقضت إلى درجة أنها يمكن أن تجمع بين الحكم ونقيضه. ولن تقوم فى مصر دولة مدنية حديثة «أد الدنيا» إلا بتحديث أجهزة الشرطة ومؤسساتها، لكى تكون فى مستوى أحدث أجهزة الشرطة فى العالم. ونحن لا نخترع العجلة لأول مرة، فلم لا نلجأ إلى من هم أكثر تقدما فى مجالات الأمن الداخلى ونفيد من أنظمتهم الحديثة والمتطورة. إن إعادة النظر فى منظومة أى وزارة ينبغى أن تكون على قدر الطموح والحلم. ومصر التى ينبغى أن تكون «أد الدنيا» لابد أن تحافظ على حقوق الإنسان حتى وهى تنفذ القانون. أما التعذيب دون وجه حق الذى نقرأ عنه فى الجرائد لمواطنين أبرياء فلا يليق بمصر التى ينبغى أن تكون «أد الدنيا». وليس كل شاب جامعى معترض على هذه السياسة أو ذاك القانون مجرما يلقى به فى السجون مع أعضاء التنظيمات الإرهابية فيخرج إرهابيا منضما إلى تنظيماتهم. أما القضاء، فلابد من إعادة النظر فى ثقافة من يدخلون إلى النيابة. وآن الأوان لأن يتوقف توريث الوظائف فى النيابة والقضاء فهذا ضد الدستور. والحق أنه لابد أن يكون وكيل النيابة مثقفا وطنيا، يعرف على الأقل التاريخ العظيم والمجيد للقضاء المصرى. لقد عرفنا من خلال جريدة أخبار الأدب، عن وكيل نيابة لم يعرف من هو محمد نور رئيس نيابة مصر العمومية الذى احترم حرية الفكر والإبداع فى التحقيق مع طه حسين بسبب كتابه «فى الشعر الجاهلى» سنة 1926، فأحال رئيس تحرير الجريدة ومؤلف رواية لنشرهما فصلا من رواية، بادعاء أنه مقال، إلى محكمة الجنايات. إن القضاء درعنا فى حماية الحق والحقيقة. ولذلك أحلم بأن يكون كل وكلاء النيابة مثل محمد نور، وكل القضاة مثل عبد العزيز فهمى، ولم لا؟ اقرأوا المجلدين اللذين كتبتهما الدكتورة لطيفة سالم عن تاريخ القضاء المصرى كى تفخروا بما كان ولا يزال لدينا من قضاة عظام.

أما التحدى الثالث فهو التحدى الاقتصادى الصناعى الذى لن أتكلم عنه لأنى من رجال الأدب، ولا أفتى فيما لا أعرف. وحسبى أن الدولة تنوب عنى، فمنذ عهد غير قريب، كان هناك مجموعة اقتصادية فى كل حكومة، تشمل وزارات المالية والصناعة والاستثمار والكهرباء والتجارة والإسكان وغيرها من الوزارات المتصلة بالاقتصاد الوطنى. وهى أكثر الوزارات نيلا لاهتمام رئيس الدولة الذى يضع عينيه دائما على المجموعة الاقتصادية التى يراها أكثر أهمية من غيرها من الوزارات. وأذكر أننى اقترحت على رئيس الوزراء السابق إبراهيم محلب (الذى ما أزال أكن له كل تقدير واحترام ومودة) أن ينشئ مجموعة تثقيفية من الوزارات التى تتصل بوعى الناس وتعليمهم وتثقيفهم. ولكن الاقتراح ضاع فى زحمة المشكلات التى يظن أن لها الأولوية دون غيرها من الوزارات الأقل أهمية مثل الثقافة. وهو ناتج عن فهم لتراتب قديم فى المفاهيم التى عفا عليها الزمن عن التنمية البشرية. وهو مفهوم يرى أن الاقتصاد هو الذى يأتى أولا فى كل مشاريع التنمية، وبعده يأتى ما يدعمه أو يكون عاملا مساعدا، لكن ليس له نفس الأهمية.

أما التحدى الرابع فهو التحدى التعليمى التثقيفى. وهو آخر التحديات حقا ولكنه لا يقل أهمية عن أى تحدٍ آخر، فهو تحد يتصل بالوعى الجمعى للشعب المصرى، وما حدث له نتيجة كارثتين تراكمت آثارهما السلبية منذ السبعينيات، حيث تصاعدت نسبة الأمية إلى أن وصلت إلى أربعين فى المائة تقريبا من عدد السكان، وفى موازاتها ارتفعت معدلات الفقر فوصلت إلى ما يقاربها، وقيل لنا إن عشرة ملايين مصرى على الأقل يعانون الفقر المدقع. وهو الأمر الذى يترك أسوأ أثر على الوعى الجمعى للمجتمع. ويجعل هذا الوعى فريسة سهلة لغزو فيروسات التعصب الدينى التى سرعان ما تفرخ جراثيم الإرهاب الدينى فى العقول. ولا يقتصر الأمر فى هذا المجال على التعليم والإبداعات الثقافية. وإنما يجاوزها إلى الثقافة بمعناها العام الذى يشمل إلى جانب التعليم والثقافة بمعناها الخاص الإعلام والوعى الدينى والاجتماعى والسياسى، وهى دوائر متداخلة، متبادلة التأثر والتأثير، يفضى بعضها إلى بعض. والحق أننا إذا تأملنا مظاهر التخلف العديدة فى مجتمعنا سنجدها ترجع إلى الثقافة، فهناك ضعف الوعى السياسى الناتج عن غياب الثقافة السياسية السليمة التى تؤثر على مستويى الوعى والممارسة. وهناك خلل القيم الأخلاقية والاجتماعية التى تؤدى إلى شيوع الفساد وغياب النزاهة فى كل مجال من مجالات الإعلام والدعوة الدينية والتعليم، وحتى فى الصناعة والتجارة لن يختلف الأمر كثيرا. ومعنى ذلك أن الثقافة كالتعليم هى الأصل فى تقدم المجتمع أو تخلفه. ولذلك أدركت الأمم المتقدمة أنه لا تنمية بشرية حقيقية وفعالة دون ثقافة مستنيرة ومتقدمة. ونحن فى أمس الحاجة إلى هذا النوع من الثقافة التى لن تكون مصر «أد الدنيا» حقا إلا به. مؤكد أن هذه الثقافة يحول دون تحققها فى بلدنا عوائق عديدة، ليس هذا مجال الحديث عنها، فالأهم من ذلك إدراك أنه لا سبيل إلى التقدم الحقيقى الفعال إلا بالمواجهة الآتية لهذه التحديات الأربعة، والعمل فى مواجهة كل منها بنفس القدر وفى نفس الوقت، فكل تحد من هذه التحديات لا يقل أهمية وتأثيرا عن غيره.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف