مشكورة ستتكفل جهات التحقيق المختصة بالكشف عن الدوافع الحقيقية وراء محرقة العجوزة، التى نفذها أربعة أشقياء بدم بارد، نحجت قوات الأمن فى ضبط اثنين منهم لم يتجاوزا بعد عتبات سنوات المراهقة ورعونتها، وتجد فى البحث عن الباقين، حتى يرتاح الرأى العام، وتخفت قليلا نيران الحسرة والوجع المستعرة فى قلوب أهالى 16 شخصا سقطوا ضحية نزق شباب فاتهم قطار الرشد والتعقل.
جهات التحقيق سيشغلها وسيوجهها توخى العدل، وتوقيع العقاب القاسى المستحق بالقانون على الذين ثبت اجرامهم وتجرؤهم على البشر والحجر، وهو ما ننتظره ونتوقعه من جهتها ولا نترقب منها أكثر من ذلك، اما من ينتظر حقا ،على أحر من الجمر، ما سيفعله بعد محرقة العجوزة فهو المجتمع ومؤسساته، وفى مقدمتها مجلس نوابنا الجديد.
فواقعة الهجوم فجرا على الملهى الليلى بقيادة حماصه والمجنون إن اختزلت نظرتنا إليها على أنها حادثة فردية لا يجوز القياس عليها، فإننا كمجتمع نواصل وبنجاح ساحق يسترعى الانتباه سياسة الهروب من مواجهة مشكلاتنا، مفضلين تركها تكبر وتتفاقم، إلى أن تصل حدا لا نستطيع معه التغلب عليها بشكل حاسم ونعالجها بمسكنات يزول مفعولها سريعا. فما جرى كان كاشفا وفاضحا لتشوهات وعورات اجتماعية خطيرة للغاية تستدعى تسليط الأضواء الكثيفة عليها وليس اخفاءها على أمل ايجاد الحلول الناجعة لها فى القريب العاجل، إن كنا كمجتمع نود فعلا بناء دولة جديدة على أسس قوية متينة.
أول التشوهات أن العنف الزائد على الحدود أضحى سمة ملازمة لأطفالنا وشبابنا الذى نأمل فى أن يكون زادا وقائدا للمستقبل، الظاهرة ليست وليدة اليوم ولا الأمس، فهى حصاد تراكمات واحباطات عهود وأنظمة سابقة تخصصت وتفننت فى البطش بالمواطنين وسوء معاملتهم. النتيجة كانت ترسخ فكرة الايمان بأنه لا سبيل لنيل الحقوق، ورد المظالم سوى الساعد القوى الشرس، وأن مَن يضربك على خدك الايمن دمر له خده الأيسر، وأن مَن يقذفك بحجر أقذفه بمولوتوف، فإن لم تستطع فبقنبلة محلية الصنع، العنف أيضا أصبح وسيلة للفوز بالاعتراف والقيمة والوجاهة الاجتماعية، فمرتكبو مذبحة العجوزة استاءوا وغضبوا من الاستهزاء بهم، ومنعهم من الدخول بسبب عدم ملاءمتهم اجتماعيا للوجود بين زبائن المكان.
وراجع معى عدد الحوادث التى نشرتها صحفنا خلال الأسابيع والأشهر الماضية عن اعتداء تلاميذ لم يبلغوا الحلم بعد على زملائهم بالمطاوي، والسكاكين، وقتل بعضهم، واقتحام الأسر مدارس لضرب مدرس لم يمنح الولد أو البنت الدرجة المناسبة، أو وبخ الابن والابنة على مرأى ومسمع من الجميع، وانظر لسلوكياتنا فى الشارع، وأماكن العمل لترى بنفسك أن لغة وفعل البلطجة باتت سائدة وشائعة.
فالمجتمع لا يحسن تقديم النماذج الجيدة القابلة للاحتذاء بها، واعتبارها مثلا أعلى يقتدى به الصغار والكبار، فقد تفوقنا فى طرح ابجديات ومبادئ ثقافة العشوائيات بمظاهر وأشكال شتى فى السينما والمسرح، ووسائل الإعلام، حتى أصبح الفتوة والبلطجى النموذج والنبراس للنشء، وتابع ما تحصده أفلام البلطجة والفتونة من عوائد مالية فور عرضها بدور السينما لتتأكد أنها مقبولة من العامة الذين يرونها معبرة عنهم، ولذا فإنهم يقبلون على مشاهدتها مرات ومرات فى دور العرض وعبر شاشات القنوات الفضائية المتخصصة فى القرصنة، ويتأثرون بها، لأنها تصادف هوى فى أنفسهم، والبعض يقلدها فى حياته اليومية.
ثانى التشوهات يتعلق باتساع الهوة الاجتماعية مع اضمحلال الطبقة الوسطى التى كانت تمثل العمود الفقرى للمجتمع المصري، وظلت رمانة الميزان المحافظة على توازنه واستقراره مهما تكن قسوة الشدائد والمحن التى تتعرض لها بلادنا. فالمقاربة والمقارنة الآن بين العشوائيات والحياة الرغدة فى حضن المنتجعات، والقصور والفيلات الفخمة المحاطة بأسوار عالية تحجبها عن أنظار وحسد غير القادرين على امتلاك سنيتمتر واحد فيها.
المقارنة سيتبعها غضب عارم، خصوصا أن مناطق المهمشين والعشوائيات محرومة من الخدمات الأساسية، كالطرق النظيفة الخالية من أكوام القمامة، ومخلفات البناء، والمياه الصالحة للشرب، والصرف الصحي، والرعاية الصحية الجيدة .. الخ.
اعلم أن هناك محاولات جادة من قبل الدولة للقضاء على العشوائيات، وتوفير حياة كريمة لسكانها، لكنها تبقى حبيسة التصريحات والأمانى وليس الانجاز على أرض الواقع، وإن لم ننجح فى إحداث طفرة سريعة بواسطة خطط عملية تقلل العشوائيات فإنها ستبقى مرتعا للعنف ولجميع الموبقات من تجارة مخدرات، ودعارة، وملاذات آمنة للتطرف والغلو المؤدى حتما للإرهاب، ورفع السلاح فى وجه الدولة. وليتنا نعيد للتعليم بريقه ومكانته السامية التى انهارت وتحطمت جراء تحوله لحقل تجارب لوزراء فاشلين، وبعد أن كانت المدرسة هى الأساس حل محلها السنتر، وفى المعية لم يعد التعليم قاطرة البقية المتبقية من أبناء الطبقة الوسطى للارتقاء الاجتماعي، فخريجو الجامعات يعملون فى مهن مقطوعة الصلة بتخصصاتهم ولا يحصلون منها على مرتبات مجزية تساعدهم على تحسين أحوالهم والاستقلال عن عائلاتهم، وغالبيتهم يتطلع للهجرة والسفر للعمل بالخارج بحثا عن فرص أفضل.
ثالث التشوهات مرتبط بالفساد الضارب بجذوره فى نخاع المجتمع ومفاصله وليس للركب مثلما قال يوما زكريا عزمى رجل عصر مبارك القوي، فملهى العجوزة مساحته نحو 400 متر، ويقع فى قبو أسفل عمارة، ويخلو من التهوية، وأجهزة إطفاء الحرائق، ومخارج الطوارئ، فمَن الذى سمح بوجود هذا الوضع المزري؟
لا شئ غير فساد المحليات، وإن قيل إنه غير مرخص، فلماذا تُرك يعمل، خاصة أنه فى مكان ظاهر للاعمى على كورنيش نيلنا العظيم؟ وكم من منشأة وأماكن عامة خالية من وسائل السلامة والأمان ومعرضة لكوارث فى اى لحظة.
رابع التشوهات خاص بقانون الأحداث، فالمتهم الرئيسى سيحاكم بقانون الاحداث لأن عمره 18 عاما، والحد الأقصى للعقوبة سيكون 15 عاما سجنا، ولا تعليق.