الأهرام
عزت السعدنى
400 سنة سجن!
تعالوا نهدأ قليلا ونلتقط أنفاسنا ونجلس فى ركن هادئ بعيدا عن القيل والقال وكثرة السؤال ونستعيد جمال وهدوء وطيابة وحلاوة الأيام الخوالي.. وعظمة الفن وترفع وتربع الفنانين والفنانات على عرشه, الفن باللون الأبيض والأسود وآخرهم اللون الرمادي.. قبل أن يتلونوا ويتكبروا ويتشخلعوا ويتشخلعن.. ويخلعون البراقع ويخلعن ويبدلن الأقنعة والمساحيق التى على كل لون ويكنزون المال ويكنزن.. عدا ونقدا وأرقاما بالهبل والشيل والزكايب.. وتخلع صنف الأنثى منهن براقع الخجل.. بينما كبار فنانينا الذين يحبون المال حبا جما ويكنزونه فى بدرومات البنوك.. اللهم لا حسد ولا شماتة «رزما رزما» وعدا ونقدا وحسابات بالمصرى وبالدولار أحسن برضه.. خوفا من عدوى أنيميا فقر الدم فى الجنيه المصرى المزمنة أمام فتوات العملات من دولار ويورو وأسترلينى وين ياباني.. اللهم اديهم الصحة والعافية.. ونقرأ خبرا طريفا ظريفا وإن كان فى الحقيقة مؤلما غاية الإيلام.. وغريبا منتهى الغرابة.. ولا يحدث إلا كل قرن مرة.. وإذا حدث.. لا يتكرر أبدا.. إلا مرة واحدة أيام أهل الكهف!


>> إيه الحكاية؟

ـ لقد قالوا لنا إن البوليس المصرى الهمام ـ كتر خيره ـ قد أوقع محتالا خطيرا فى الاسكندرية.. هاربا من 2121 حكما قضائيا.. أكرر 2121 حكما حكم القضاة فيها كلها معا بـ 024 سنة سجن.. أكرر بالحروف أربعمائة سنة سجن... والمفروض أن يتم ترحيله إلى السجن لتنفيذ صحيح العقوبة.. يعنى يمكث خلف القضبان سجينا أربعمائة سنة يزدادون عشرينا!

وأنا مازلت غضا غريرا ذهبت مع والدى إلى شارع عماد الدين أنا وأبى وأخى صلاح لندخل مسرح الريحانى الشهير أيامها.. ونشاهد معا مسرحية: 03 يوم فى السجن.. وهى احدى قمم فنان الشعب عمنا نجيب الريحانى الذى دعانا هو بنفسه وترك لنا دعوة لـ 4 أفراد على باب المسرح ليلا.. وكان الريحانى قد زارنا فى منزلنا فى القناطر الخيرية بصحبة بديعة مصابنى المرأة الوحيدة التى أحبها نجيب الريحانى كما قال ـ وتزوجها.. واصطحبهما أبى إلى نزهة نهرية «باللنش بكاشين» ـ وهذا هو اسمه ـ وهو زورق بمحرك ديزل كان يطوف به والدى مهندس الرى على الجسور والترع لمراقبة تصرفات نهر النيل وضبط الفلاحين المخالفين الذين يروون حقولهم فى غير مواعيد «مناوبات الرى هكذا كانوا يسمونها أيامها.. وكنت أيامها صغيرا ربما فى ثانية ابتدائي.. ونشأت صداقة أيامها بين أبى وعمنا نجيب الريحاني.. وأذكر أننى يوم الزيارة لم أرفع عينى عن بديعة مصابنى ربما من فرط جمالها!

نعود إلى مسرحية «03 يوم فى السجن» التى تذكرتها وتذكرت معها ذلك الشريط الحى كله.. من بعد أن ظهر فى الأفق خبر «024 سنة سجن» التى تجمعت فى سجل صاحبنا الذى وقع فى أيدى العدالة.. والذى ضرب الرقم القياسى العالمى والذى سجله السجين الفنزويلى أدموندو مورنتو فى الأربعينيات بـ 762 سنة سجنا لمجموعة أحكام لجرائم فى رقبته.. كلها تقريبا جرائم اتجار فى المخدرات.. وهروبه من مطاردة رجال الشرطة.. بل إنه مسجل باسمه أربعة عشرة مرة هروبا من السجون الفنزويلية.. وكانت نهايته الموت رميا برصاص الشرطة فى المرة الرابعة عشرة من محاولات هروبه!

...............

................

ترى هل سيرضخ صاحبنا وفى رقبته 024 سنة سجنا لقدره المحتوم ويمضى عقوبته خلف الجدران ـ ويا ترى مين يعيش؟

أم يفعل يا ترى برضه ما فعله عمنا محمد الديب الممثل فى فرقة الريحانى فى مسرحية: «03 يوم فى السجن».. عندما دفع لفنان الشعب وأحسن ممثل كوميدى ظهر فى مصر والذى اسمه نجيب الريحانى مبلغا محترما من المال.. لكى ينتحل شخصيته ويحل محله فى السجن ليمضى خلف الأسوار عقوبة قدرها (03 يوم سجن).. فما بالك بـ (024 سنة سجن).. من يا ترى يقبل الذهاب برجليه إلى السجن هذا العدد الهائل من السنوات.. وهل يخرج من السجن على نقالة إلى مثواه الأخير.. أم يكتب الله له عمرا فوق عمره مائة مرة.. كما حدث لأهل الكهف الذين أماتهم الله ثلاثمائة عام وازدادوا تسعة؟

أم سيدخل النار بقدميه ويمضى عمره كله خلف القضبان ويا ترى مين يعيش؟

أنا شخصيا أيها السادة شاهدت مسرحية 03 يوم فى السجن هذه مرتين.. مرة بدعوة كريمة من بطلها فنان الشعب نجيب الريحانى ومارى منيب وميمى شكيب وسراج منير وعباس فارس وذهبنا أنا وأبى وأخى صلاح إلى مسرح الريحانى فى عماد الدين شارع الفن والفنانين أيامها.. وكنت أيامها فى نحو التاسعة من عمري..

ومرة رأيتها مع أصدقاء أيام الشباب والضحك والفرفشة فوزى حجازى الذى أصبح فيما بعد أستاذا فى كلية الزراعة وعطية القوصى أستاذ التاريخ الإسلامى فى جامعة القاهرة الآن..

فى المرة الأولى كان نجيب الريحانى هو البطل.. وفى المرة الثانية كان عادل خيرى هو البطل..

وفى المرة الأولى دخل السجن نجيب الريحانى بدلا من عباس فارس.. ولكن المرة الثانية دخل السجن مختارا عادل خيرى بدلا من الممثل القدير محمد الديب.

ولكن من ذا الذى يقبل الآن أن يدخل سجينا من سنوات العمر 024 عاما.. إذا فرضنا أن لعبة التزوير فى الأشخاص نجحت وفلحت وخالت على رجال الشرطة والأمن كله؟

على أى حال نحن نتخيل هنا حلولا ونرسم لصاحب الـ (024 سنة سجن) فى عنقه سبيلا للخلاص ولو إلى حين..

...............

...............

وقد يسأل إنسان قصير مكير ـ وعادة كما عشنا وشفنا وكما عاش أجدادنا وشافوا وقالوا إن الإنسان المكير يعنى الماكر الخبيث عادة ما يكون قصير القامة.. ماذا لو حدثت معجزة من معجزات الزمان الذى ولى وراح.. وعاش صاحبنا المحكوم عليه بـ (024 سنة) مدة عقوبته.. ماذا يا ترى يحدث عندما يخرج من باب السجن طليقا؟

وكيف أمضى الاربعمائة سنة يزدادون عشرينا خلف القضبان؟

أو على الأقل لو طبقوا عليه فى السجن مبدأ حسن السير والسلوك وطلعوه بثلثى المدة.. يعنى خصموا 021 عاما من حساب عقوبته.. يعنى بحساب السنين.. عام 5132 ميلادية طبعا!

وماذا سوف يشاهد الدنيا بعد أن أمضى تقريبا نحو ثلاثمائة عام تماما مثل أهل الكهف؟

مع الفارق طبعا.

أهل الكهف.. قوم صالحون مقربون من الله تعالي.. لا يرتكبون إثما أو جرما أو معصية فى دنياهم.. حتى أنهم تحولوا بعد أن عادوا إلى كهفهم من جديد هربا من دنيا الضياع والرذيلة والنفاق والشقاق والقتل وإسالة الدماء.. وبنوا لهم مقاما ومسجدا فوقه.. يتبرك به من بعدهم.. كل من يريد أن يكفر عن خطيئة أو ذنب أو معصية على الدنيا وما زال مقامهم محفوظا فى شعاب الأردن!.

...........

............

حتى لا نبتعد بفكرنا وعواطفنا بعيدا بعيدا.. وحتى لايشطح بنا خيالنا بعيدا بعيدا.. فإن صاحبنا لو قدر له الله أن يطول به العمر ـ والله قادر على كل شيء ـ حتى عام 5132 ميلادية طبعا ماذا سوف يرى.. وماذا سوف يستقبله خلق الله بتوع عام 5132 هذا هو السؤال؟

والجواب أتركه لكم.. وأسمعكم تقولون: ثلاثمائة عام تصنع كثيرا.. الناس أصبحوا أكثر توحشا وأكثر غلظة وأكثر أنانية.. سوف يجعلونه فرجة لخلق الله لكى يسترزقون من ورائه!

تعالوا نرسم معا صورة من الخيال لما يمكن أن تكون عليه الحياة والناس والدنيا كلها بعد نحو ثلاثمائة عام ويزيد؟

وهل يا ترى سوف تستمر معنا موجة الشر التى اسمها داعش وأخواتها من الجماعات الإرهابية التى زرعت الفساد وسنت الرعب وخلقت الخوف وفجرت آبار الدم والهم والغم وشردت شعوبا بحالها واحتلت دولا من بابها؟

ثم ماذا سيكون شكل القاهرة ومصر كلها.. والناس والحياة والحب والزواج؟

وماذا سيكون حال المرأة؟..

هل ستظل بعد أربعمائة عام على نفس حالها ونفس منوالها.. نكدية وكيادة كما هى وكما خلقها الله فى حياة الرجل.. كما كانت أمنا حواء فى حياة أبينا آدم.. تسرق من سلته التفاح فى الليل وتأكله من ورائه خلف باب الكهف ـ كما قال عمنا وأديبنا الكبير أنيس منصور؟

أم أنها تهدأ وسوف تأخذ زوجها فى صدرها وأولادها فى قلبها.. وتقول لهم عبارة واحدة هي: حقى برقبتى؟

......................

.....................

تعالوا نخرج عن دائرة العقل والمعقول.. تعالوا نخترق قوانين الطبيعة الإنسانية وقوانين الخلق ونظريات الحياة التى لا تتغير ولا تتبدل.. تعالوا نخترق خلسة مفردات قانون داروين للتطور والتبدل وخلق طفرات جينية كما يقول وكما يفتى عمنا داروين.. وكما سماها نظرية «الطفرة الجينية».. لنمنح من عندنا هذا الأفعوان الذى ارتكب فى حياته إثما كبيرا.. بل آثاما كبارا غلاظا شدادا.. سنوات عمر جديدة وأعوام بقاء على الدنيا.. ليست من حقه ولم يكن يحلم بها.. وهو الذى ارتكب جراما وآثاما يستحق عليها أن يظل خلف الجدران ولا تظلله أبدا طوال حياته أشجار الطريق.. لنعرف أو حتى نتخيل ماذا سوف يرى يوم خروجه إلى النور.. إلى رحاب الحياة.. إلى الشارع الذى يعبره الخلق ليل نهار على أقدامهم أو فوق دراجات أو راكبين داخل عجلات تجر أتوبيسا كان أو ميكروباصا أو سيارة أجرة أو حتى ملاكى.. وربما أركبناه من عندنا دراجة.. أو تركناه على هواه يمشى الهوينا تحت سماء القاهرة التى سيكون عمرها يوم خروجه من سجنه الطويل نحو ألفا وخمسمائة عام على الأقل..

ترى ماذا سيكون شكل القاهرة يا ترى؟

هل ستظل على حالها كما نعرفها الآن.. مزدحمة بالناس أشرارا فجرا ـ برفع الفاء ونصب الجيم ـ أو طيبين يخشون ربهم ويصلون فرضهم؟



وكما يحدث الآن من تدمير لدول عربية كانت يوما ملء السمع والبصر تحمل أسماء سوريا والعراق وليبيا.. واذرفى الدمع والطمى الخدود يا كل أمهات العرب!

نحن لا نعرف ماذا سوف يشاهد هذا الأفعوان فى أول يوم ينزل فيه تعديته شوارع القاهرة وهو نقطة مجهولة لكل الخلق فى طريقه..

لسوف يتوه قطعا ويضطرب ميزانه العقلى والنفسى ويتلطم كيانه وهو ينزل إلى طريق لا يعرف إلى أين يقوده؟ بل إنه لا يعرف إلى أين سيذهب؟ فليس له أهل ولا أقارب ولا زوجة ولا أولاد ولا حتى أصدقاء.. يبحث عن داره أينما كانت من قبل فلا يجدها.. فالقاهرة فى عام 2435 يوم خروجه الميمون.. ليست بالقطع هى القاهرة التى تركها قبل أن تثقل كاهله وتتعلق برقبة أحكام سنين وأعوام أمضاها خلف الأسوار طالت حتى وصلت إلى الرقم 420 عاما!

هنا يتكرر مشهد أهل الكهف الذين أماتهم الله ثلاثمائة عام ازدادوا تسعا.. يعنى 309 أعوام خارج حدود الحياة.. خارج حدود البشر.. مجرد رقم فى زنزانة أو حتى عنبر سجناء فى أبوزعبل أو طرة أو فى سجن العقرب!

......................

.....................

تعالوا نصحب هذا الأفعوان الذى تغير شكله وتبدل حاله وانحدر منواله حتى أصبح شيخا هرما ربما لا يقدر على السير..

ها نحن نصحبه ليس شفقة به.. ولكن لنسجل انطباعاته وسكناته وكلماته فى أول يوم حرية بعد 420 سجنا.. يعنى سنة 2435 ميلادية.. إذا لم يخصموا منه بضع عشرات من السنين أو حتى مئات لحسن السير والسلوك.

ماذا سوف يرى ما نرى.. وماذا سوف نرى بصحبته الدنيا بعيون من أمضى خلف القضبان أربعمائة وعشرين عاما؟

ولكن ذلك حديث آخر!{
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف