فى الأساطير اليونانية حكاية تهمنا الآن، وهى حكاية عن حداد أسطورى من نسل الآلهة، اسمه بروكرستيس، وكان يقيم فى بيت على سفح جبل بالقرب من أثينا، صنع هذا الحداد المفتون بذاته، سريرا قويا من الحديد لينام فوقه ضيوفه، ولكن السرير لم يكن يتناسب بقياسه الثابت مع أجسام كافة الضيوف، واختار الحداد حلا عجيبا لهذه المشكلة، فكان يمط جسد الضيف القصير بيديه القويتين، حتى تنخلع مفاصله، أو يدقه بمطرقته كى يستطيل، أما طوال القامة فكان يقطع ما زاد من سيقانهم، الى المستوى الذى يصبحون عنده بطول سريره البديع. كان بروكرستيس يرى أن سريره نموذج للكمال، ولذا كان ينظر بعد أن يتم حفلته المجنونة،الى جسم ضيفه قائلا : «الان ياعزيزى أصبحت مثاليا، يناسبك تماما النوم فوق هذا السرير».
تسرير بروكرستيس سيىء السمعة أصبح مجازا انسانيا شهيرا، وتعددت التأويلات والشروح لقصته العجيبة، فصار رمزا لأى سلطة تعتقد أنها تملك الحل المثالى لكافة القضايا، وهى بالمثل حكاية عن صعوبة التصالح بين التصورات الجامدة، وتنوع الحياة والناس والأفكار، فلا يمكن اخضاع الفروق الطبيعية والانسانية لمنطق الهندسة الصارم، وهى إشارات تحذير هامة، فتصور احتكار الصواب هو الخطوة الأولى فى مسيرة الطغيان، وهى مسيرة تنتهى بممارسة أقسى أشكال القمع ، وفى كافة القراءات هناك اجماع على انها مشهد مرعب لتوحش السلطة. تنتهى حكاية الحداد كما عودتنا الأساطير بأن يظل هو نفسه مقيدا الى سريره كعقاب لا ينتهى.
لنترك الحداد يواصل نومه الأبدى فوق سريره القاسي، وننتقل الى عصورنا الحديثة، فهناك من يعيد انتاج هذا التصور بشكل أكثر مباشرة، وأقصد بذلك الفوضويين، يجمع أغلب الفوضويين، على رفض أى سلطة، بغض النظر عن طبيعتها ،فهى سرير حديدى فى نهاية الأمر، ويرون أن فى معارضة السلطة اعتراف بأهميتها، وأن الثورة والتمرد ما هى إلا وسائل لتأكيد ضرورتها، والرغبة المستمرة فى إعادة انتاجها، وأى سلطة جديدة، ستشرع فورا فى نصب سريرها، ولذا يطمح الفوضويون الى عالم بلا سلطات سياسية. عالم لا تنظمه حكومات مركزية، وإنما تفويضات مباشرة وحرة، مجتمع مبنى على التوافق الطوعى بين أناس أحرار ومتساوين، على أساس التعاون والابداع والاحترام المتبادل. فالدولة القومية بشعاراتها وعواطفها الوطنية تخدم تاريخيا،من وجهة نظرهم، مصالح النخب المختلفة، لأنها معنية حتما باستمرارها، وبسط نفوذها ،وتصعيد مؤيديها، وترسيخ بنيتها الهرمية، وأجهزتها القمعية، ومؤسساتها البيروقراطية.
بين تطرف الحداد فى فرض إرادته بوحشية على الجميع، والتطرف الآخر من قبل الفوضويين فى رفضهم لأى سلطة سياسية مهما كان شكلها، أين تقع الصورة التى يصنعها المصريون للسلطة.؟ أعتقد أن المصريين ينظرون الى النظام الحاكم ، وكأنه القدر، أو كأنه كيان مفارق ، يبتعد عنهم كما تبتعد القلعة بغموضهاوالقصر بفخامته عن بيوتهم المتواضعة المفتوحة دائما. السلطة فى نظر الأغلبية كيان يتحرك ويتبدل ويقرر وفق كواليسه الداخلية الملغزة. علاقة المصريين بالنظم الحاكمة، هى علاقة مركبة ، فيها ركون دائم للامتثال ، وفيها الكثير من الريبة أيضا، مزيج مصرى خاص من الخنوع والتحايل والمقاومة السلبية. كما أدى الفشل المتكرر فى محاولات النهوض، والطابع الاستبدادى العنيف الى يأس ممتد وسخرية مرة.
ولكن هذه العلاقة تعرضت مؤخرا لتحول بالغ الأهمية، فقد تأكدت لدى الكتلة الحيوية من المصريين قناعة بأن الجلوس الذى طال على مقاعد المتفرجين، هو الذى سمح للانظمة المتعاقبة بإفساد حياتهم ونهب مقدراتهم، الى درجة جعلت وجودهم مهددا بالفعل، وقد ساعد فى تكون هذا الوعى ، تدهور المجالات كافة ، وتطرف حسنى مبارك وجماعته فى النهب واحتقارالشعب ومطالبه، تأكد هذا الوعى الجديد، مرة بالخروج الكبيرفى 25 يناير، ومرة ثانية فى رفض المصريين الفورى والقاطع للنوم فوق السريرالمستهلك الذى بنته سلطة الإخوان على عجل.
كان المصريون مجمعون على الاطاحة بهذه الأنظمة المهددة لوجودهم وطبيعتهم ، ولكنهم نظرا لضمور الوعى العام و ضعف التطور السياسى وغياب القيادات والمؤسسات الأهلية المؤثرة، لم يشاركوا فى بناء نظام جديد. اختارالشعب أن يمنح الفرصة كاملة للرجل الذى وقف الى جانبه، وطلب منه تفويضا وأمرا بلسانه، واكتفى هكذا بدورالمراقب اللماح لما يستجد من أمور، فعادت حالة الامتثال التاريخية الى الأغلبية، ولكن قطاعا كبيرا آخذ فى الاتساع، بدأ يتوجس مجددا، فقد تتابعت الصدمات، وبدا كما لو أن النظام منهمك فى بناء سرير جديد، بنفس الحديد القديم ، لتعود المخاوف، التى تخيل الشعب أنه قد تجاوزها بلا رجعة.
التف المصريون بقوة حول نظام عبد الناصر، ولكن هزيمة 67 القاسية أكدت لهم أن همة قائد مخلص لاتكفى وحدها، وأن الخطاب الرسمي، شعارات بعيدة تماما عن الحقيقة، كما كشف العبور العظيم أهمية المشاركة الجادة والاستفادة من قدرات المصريين. وما نتابعه الآن يظهر لنا، أن جهود مؤسسة واحدة مهما بلغت قدراتها، لن يكون كافيا لمواجهة التحديات التى تحاصرنا، بل وأجهزة الدولة ومؤسساتها مجتمعة لا تملك الآن القدرات اللازمة لحل مشاكلنا الكبرى، فقد اعتادت الفشل والفساد، فى غياب أى محاسبة، ويصعب أن نتصور أن أداء الدولة سيتغير طواعية من داخلها. وبارادتها وحدها. نحن بحاجة لتغيير جذرى ليس فقط فى الأداء الرسمي، بل وأيضا فى اداء نخبنا ومثقفينا، وفى نفوسنا التى أدمنت سماع الصوت الواحد، أعتقد أننا نحتاج الى ما يشبه المعجزة ، كى ننهض دولة وشعبا معا، والمعجزة التى نتمناها، هى أن يواصل المصريون مسيرتهم السلمية والمشروعة، لبناء قوة مدنية واسعة، تدفع فى اأتجاه المشاركة الكاملة لكافة الخبرات المخلصة، وتحرير طاقات المصريين، كى نعبرهذه اللحظات الصعبة، وهى مهمة شاقة بلا جدال.