الحديث عن الدستور يعنى مباشرة الحديث عن العقد الاجتماعى الذى يحكم علاقة الحاكم والمحكوم، ويحدد بوصلة الاتجاه السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وإذا كان الدستور هو أبو القوانين ، فإن العبث به يعنى نهاية دولة القانون ..
ويصل العبث منتهاه عندما نجد أن من كانوا يهللون بالأمس القريب للدستور ويحثون الناس للنزول كى يصوتوا عليه، هم الذين يتقدمون طليعة العابثين الذين يطالبون بتعديل نفس الدستور رغم أنه لم يدخل عملياً حيز النفاذ ، كمثل من أشترى سيارة بالأمس، وقبل أن يقودها متراً واحداً صرخ مطالباً بتغيير الكوابح وعجلة القيادة والعجلات وعمود الكردان..!
أريد أن أوضح أن الظاهر سياسياً على الأقل بالنسبة لى أن ذلك التوجه هو نوع من الانبطاح السياسى أمام نظام الحكم، ربما طمعاً فى ذهب المعز، أو خوفاً من سيفه، والحقيقة أن المطالبين بتعديل الدستور، يسببون مشكلة كبيرة لهذا النظام، فإذا نظرنا لتاريخ محاولات العبث بالدستور فسوف نجد أن نتائج هذا العبث كانت دائماً وخيمة، ويكفى هنا أن أشير إلى إلغاء دستور 1923 وإحلال دستور 1930 محله بهدف زيادة سلطات الملك، لقد تفجرت المظاهرات واستمر الضغط الشعبى حتى تم إسقاط هذا الدستور واستعاد الشعب دستور 23، وعندما قامت مجموعة تشبه المجموعة الحالية بالهتاف والرقص فى مجلس الشعب كى يتم تعديل دستور 1971 لإلغاء تحديد الفترات الرئاسية التى كانت محددة بفترتين ، كى تصبح غير محددة المدة بغرض منح الرئيس السادات فرصة الحكم مدى الحياة ، لم يكمل الرئيس فترته الثانية حيث تم اغتياله عام 1981، وتمتع سلفه مبارك بهذا التعديل الذى كان نقمة عليه وعلى شعب مصر، وعندما قام ترزية الحكم لنظام مبارك بتعديل الدستور ووضع المادة 76 و 77 توطئة للتوريث، كانت تلك بداية النهاية لنظام الحكم .. وهو نفس ما حدث عندما تجرأ الرئيس السابق مرسى على الدستور وأصدر إعلانه الدستورى المشئوم فى نوفمبر 2012 ..
قبل حديث الرئيس عبدالفتاح السيسى الشهير عن «دستور النوايا الحسنة» كان كهنة السلطة وسماسرة السياسة والإعلام يمهدون الرأى العام ويحرضون على التعديل، ولا يمكن القطع بأن ذلك كان بإيحاء من النظام السياسى ، ولكن قد يكون من الصحيح أن النظام قد استلهم منهم هذه الفكرة فأستحسنها وبدأ يروج لها ..
ومن نكد هذا الزمان، أن يخرج علينا بعض المتفيهقين كى يفتوا فى الدستور ويدٌعوا «أن هناك ضرورة ماسة لتعديل المواد 146 و147 و161 وغيرها.. إلخ، ركز هؤلاء المتفيهقون على «إننا نحتاج أن نرفع الوصاية الممنوحة للبرلمان على رئيس الجمهورية وفق المادة 147 والمادة 161، على أساس أن المادة 161 تعطى للبعض أحقية سحب الثقة من الرئيس»..
وأوضح متفيهق دستورى أن الوزير سيكون ولاؤه للبرلمان لأن الدستور يعطى للبرلمان حق إقالة الحكومة .. وكأنه لا يعلم أن الوزير وكافة المسئولين ولاؤهم للشعب فى إطار الدستور، لأن الولاء هنا ليس علاقة شخصية، بينما أكد متفيهق آخر، أصبح نائباً فى مجلس النواب: «أن هناك عددًا من مواد الدستور يحتاج إلى تعديل، منها المواد المتعلقة بصلاحيات رئيس الجمهورية، على أساس أن الرئيس يكون مسئولاً عن الحكومة، فكيف لا يستطيع عزل أى وزير إلا بالرجوع إلى البرلمان، كيف نحاسب الرئيس دون امتلاكه لكل السلطات ».. وكلها كما نرى مجرد حجج متهافتة..
وكان من الملاحظ أن عددا كبيرا ممن كانوا يتأهبون للانتخابات البرلمانية، كانوا الأعلى صوتاً والأشد حماسة فى المطالبة بالتعديل ، وبدا ترتيب وهندسة البرلمان وكأنه سينتخب لهذا السبب ، فوجدنا احتفاء بقائمة قيل إنها تمثل الدولة ، ونواب يتباهون بأنهم ظهير الرئيس السياسي، وكأن هؤلاء جميعاً يتنافسون للدخول إلى البرلمان كى ينزعوا منه مهمته الرئيسية فى الرقابة والتشريع وذلك بتقليص الصلاحيات الممنوحة لهم بمقتضى الدستور، وهو ما يمثل بالفعل انتكاسة خطيرة لنضال الحركة الوطنية المصرية التى وقفت ضد تلك الدساتير التى جعلت من رؤساء الجمهوريات أنصاف آلهة، بما فتح الأبواب واسعة لانتشار الفساد وتأسيس دولة المحاسيب، لأن السلطة مفسدة والسلطة المطلقة مفسدة مطلقة .
ولقد شعر الشعب المصرى بذلك التوجه، وأدرك أن قوانين الانتخابات قد تم تفصيلها كى تنتج برلماناً لن يزيد عن كونه إدارة مضافة لإدارات السلطة التنفيذية، ولذلك فقد أنصرف هذا الشعب بغالبيته العظمى عن العملية الانتخابية، وكانت المقرات الخالية أبلغ رد على تلك الدعوات التى لا تستند إلى أساس سياسى أو قانونى أو أخلاقى... والآن وبعد ما أتضح من ضعف الإقبال على التصويت، هل يجرؤ برلمان العشرين فى المائة أن يتحدى إرادة 98% صوتوا بنعم لهذا الدستور؟
أن آباء الدستور الحالى (لجنة العشرة ولجنة الخمسين) عندما وضعوا مواد هذا الدستور، الذى كان يعد من الناحية الفنية تعديلاً لدستور سابق تم وضعه فى زمن الإخوان، إنما كان يهدف إلى ما هو أبعد من فترة حكم الرئيس الحالى، كى يضع آليات قانونية سلمية تتيح للشعب إزاحة الرئيس بشكل سلمى هادئ إذا أخل بشروط العقد الاجتماعى أو خرج على القواعد فوق الدستورية المتعارف عليها ،وذلك للحيلولة دون الوقوع فى صراع دموى.. واليوم نجد هؤلاء الذين يروجون لدعوى التعديل يتحججون بأنها «لحماية الرئيس» بل ولم يخجل بعضهم من المطالبة بفتح فترات ومدد الرئاسة للاستفادة من عبقرية وحكمة الرئيس الحالي.. والحقيقة التى لامراء فيها أن «الحماية الراسخة لأى رئيس» تكمن فى مقدار احترامه للدستور ..
أن هؤلاء يغامرون باستقرار الوطن فى وقت يواجه فيه جرائم الإرهاب وأوضاع اقتصادية متدهورة، كى يفتعلوا معركة ليس لها عنوان سوى «الإمعان فى منافقة السلطة التنفيذية» ومن الممكن أن يواصلوا هذا الطريق الخطر حتى نهايته، ولكننى أسأل كل من يعنيه الأمر فى هذا البلد، ماذا لو نجح هؤلاء فى اقتراح التعديلات، ثم رفضها الشعب فى الاستفتاء، ألا يلقى ذلك بظلال كثيفة من الشك السياسى والقانونى على شرعية الحكم الحالي، بل وشرعية البرلمان نفسه؟ هل يتحمل الوطن هذا النوع من المغامرات؟