شعبان يوسف
صلاح جاهين يكتب عن عز الدين نجيب والثقافة الجماهيرية
الثقافة الجماهيرية وعز الدين نجيب قرينان، ولا يمكن أن نتحدث عن تاريخ هذه المؤسسة - الدور، ولا نذكر أسماء من أسهموا فى بنائها، والقتال من أجل رفعتها، وإنجاح مساراتها، قبل أن ترعى فيها المصالح الفردية، وتطير فيها غربتنا الرجعية، وأعداء الثقافة عموما، لا بد أن نتذكر الفرسان الأوائل بداية من الدكتور ثروت عكاشة، وزير الثقافة الأسبق، والذى استجاب لسعد كامل المثقف والمناضل المحترم، بل استدعاه للقيام بدور «نافخ الكور» فى هذا البرد الثقافى القارس، وكان الدكتور والطبيب النفسى أحمد عكاشة -شقيق ثروت، وصديق سعد كامل- قد دبّر مقابلة بين الاثنين، عندما كان كامل فى مستشفى السجن فى مطلع الستينيات، واتفق الاثنان على إخراج هذا المعنى النبيل إلى النور، هذا المعنى الذى يكمن فى مفهوم الثقافة الجماهيرية، قبل أن يتحول هذا المفهوم إلى مؤسسة ذات أبنية ضخمة وطوابق وقصور وموظفين معوقين بيروقراطيين.
لا بد أن نتذكر سعد الدين وهبة ويعقوب الشارونى وألفريد فرج وفاروق حسنى الذى كان يدير قصر ثقافة الأنفوشى، قبل أن يصعد سلالم السلطة بسرعة الأجهزة المعلومة وغير المعلومة، كل هؤلاء شرّقوا وغرّبوا فى ربوع مصر المحروسة، ليلتقوا بشكل فعلى ومباشر بالناس، الناس المتعطشين لأى حرف مضىء ومفيد فى الوقت نفسه، والناس الذين تفاعلوا مع مبادرات الدولة المصرية، عندما كانت هناك مبادرات.
وفى قلب كل هؤلاء، أو معهم، أو قبلهم، لا بد أن يكون الفنان التشكيلى والكاتب القصصى والناقد والأستاذ عز الدين نجيب، الذى بدأ تجربته مع مفهوم مؤسسة الثقافة الجماهيرية منذ البداية، أو ما بعد البداية بقليل، حيث إن مفهوم الثقافة الجماهيرية منذ عقد أربعينيات القرن الماضى، عندما فكّر الدكتور أحمد أمين فى إنشاء الجامعة الشعبية، ليتطور المفهوم ويتسع ليصبح الثقافة الجماهيرية، إذن بدأ عز الدين نجيب وهو يحلم ببناء ثقافة بلد وأمة وشعب، وراح يجرّب بعافية شاب تجاوز الثلاثين من عمره بعامين فقط، وكان قبل أن يلتحم عز الدين المثقف الطليعى بالحجر الصوّان وأجهزة الدولة العصّية على المرونة فى كثير من الأحوال، وكل المعوقات المجتمعية التى حاول تليينها، وتمرينها على الاستجابة، كان منذ بداياته الأولى، وقبل أن يتخرج فى كلية الفنون الجميلة عام 1962 يكتب القصة القصيرة، وينشرها فى جريدة المساء ثم نشر عام 1960 مع رفاق له مجموعة قصصية مشتركة، هؤلاء الرفاق هم: محمد حافظ رجب، والسيد خميس شاهين الشهير بـ سيد خميس ، ومحمد جاد، والدسوقى فهمى، وكان عنوان المجموعة المشتركة هو عيش وملح ، وقدم لها الكاتب والأب يحيى حقى، ولم يتوقف عز الدين عن الكتابة القصصية، رغم انخراطه فى مجال الفن التشكيلى، وهو انشغاله الرئيسى، ولكنه أصدر بعد ذلك ثلاثة كتب قصصية، هذا عدا كتاباته النقدية المهمة والتى تتابع الحركة التشكيلية بدأب ودقة ووعى نقدى استثنائى.
ذهب عز الدين إلى محافظة كفر الشيخ، فى ظروف اجتماعية صعبة، ليلتقى هناك بالشاعر الحالم الكبير محمد عفيفى مطر، وخاض عز هناك معارك ضارية مع المندسين والمخبرين وجواسيس الرأسمالية وبقايا الإقطاع. خاض عز الدين المعركة بثقافته الموسوعية، وبأحلامه الفتية، وتعلّم أن الثقافة لا بد أن تبدأ من هنا، وسجّل تجربته الفريدة والدرامية، والتى توقفت إلى حين، ولكنها لم تنته، ولم تزل من الذاكرة، ومن الوجدان. إن كتاب عز الدين نجيب الصامتون ، والذى قدّم له الأستاذ صلاح عيسى، يعتبر المرجع الأول فى قدرة المثقف على تحويل الظلام الدامس إلى أضواء مبهرة، هذه الأضواء المبهرة التى استدعت وألّبت عليه تحالف الأمنجية والرجعيين وفلول الإقطاع، هذا التحالف الذى ما زال يرعى فى الثقافة الجماهيرية بشكل سافر أحيانا، وبأشكال مستترة فى أحيان كثيرة، هذا التحالف الذى يحتاج إلى يد قوية للقبض عليه، وشلّ قدرته على تعويق أحلام المثقفين من طراز عز الدين نجيب -الذى سيبلغ خمسة وسبعين عاما فى 30 أبريل القادم- والأجيال التى تلته.
وفى 23 فبراير 1967، وفى مجلة صباح الخير كتب الشاعر العظيم صلاح جاهين -الذى كان يرأس تحرير المجلة آنذاك- رؤيته للثقافة الجماهيرية، أودّ أن أورد نص أو حلم صلاح جاهين كاملًا، لعله يضىء لنا هذه الطرق الغامضة أو المعتمة، اسمعوا واقرؤوا ماذا كتب صلاح جاهين:
… أذكر ما رأيته الأسبوع الماضى بقصر الثقافة فى كفر الشيخ، وكان مدير الثقافة بكفر الشيخ الكاتب القصصى عز الدين نجيب، قد دعانى مع سليمان نجيب إلى ندوة بعنوان (نحو أشعار وموسيقى شعبية)، ولكن الحاضرين التحموا معنا فى مناقشات واسعة أظهرت لنا بكل وضوح ذلك الوهج الحار الذى يشتعل فى كل مكان من بلادنا، والذى لا ينقصه إلا أن يفسح له المجال، فيضىء العالم بحضارة عربية جديدة.. تعايش التجربة الإنسانية الحديثة وتضيف إليها.. قلت لنفسى إن رسالة قصور الثقافة -وفى عواصم المحافظات بالذات- هى أن تصنع (قاهرات) ثقافية كثيرة تضىء ما حولها من الريف المظلم المدلهم على مر العصور.. ولكننى عدت فقلت.. ولم لا تكون رسالة قصور الثقافة فى الأقاليم هى تفجير ينابيع الحضارة العربية الحديثة التى تنبعث من واقعنا فعلًا.. وتعبر عن عصرنا العربى فعلا.. بحيث تقوم حركة التفاف حول فنون القاهرة التى نمت وترعرعت وتوطدت فى عصور سابقة على الثورة ولا يمكن تخطيها ولا إلغاؤها بجرة قلم.. وإنما بتنمية مثل هذه المراكز الحية.. يمكن للكائن الحى أن يسلك طريق الازدهار.. .
وهكذا يكتب صلاح جاهين بعض رؤيته لمفهوم الثقافة الجماهيرية فى ذلك الأوان، وفى كل أوان، لعلنا ندرك قيمة ما كتب.