كما تُملح هذه الأمة الطعام وتجمده وتحفظه وتنقله ولا تنتجه فإنها تُملح وتجمد وتحفظ الأفكار وتنقلها ولا تُنتجها.
طعامها وعقلها واحد، ومعظم طعامها مرهق للمعدة البشرية وكما وصفه الدبلوماسى الإنجليزى الشهير بلورانس العرب حين نصح الدبلوماسيين الإنجليز المقبلين للمنطقة العربية بكيفية التعامل مع العرب (لا ترفضوا طعامهم لأنهم يعتبرون هذا إهانة، وتعودوا أن تهضموا طعاماً لا تهضمه إلا الوحوش).
ولكننا نهضم هذا الطعام شديد البأس على بطوننا ونشعر بالتعاسة لغيابه، وقليلاً ما نغيره لما هو أسهل هضماً أو أغنى فائدة إلا بفعل السن والمرض، وعندما دخلت علينا بعض الأطعمة والعادات الغذائية المقبلة بفعل العولمة والإعلام والهجرات فإننا اخترنا ما لا يخرج عن ذائقتنا وشهوتنا فانتقينا الوجبات التى تمتلئ بالزيوت والدهون والبهارات وتخالف القواعد الصحية مما ساعد فى ارتفاع معدلات الأمراض والسرطانات لدى الصغار والكبار، أحدثكم عن اختياراتنا العقلية فأسرفت فى الحديث عن اختيارات الطعام! عموماً كلاهما غذاء يدخل ويخرج من الجسد ويحتل منطقة، كما أن عقول العرب هى التى تختار لهم كل شىء بما فيها طعامهم، وهى التى تنكر وتتجاهل وتستخف بالتحذيرات العلمية من أطبائنا وعلميينا التى تتعلق به وبشئون حياتهم المختلفة فى طرق زراعتهم وتعليمهم، ومواعيد نوم أطفالهم وتربيتهم.. إلخ.
إلا أن كل هذا العِلمى لا ينفذ منه إلا ما شاءت العقول! وسبب ذلك كله أن هذه الأمة لا ترى للعلم أهمية ولا ترى للعقل ضرورة ولا ترى للفكر عملاً لديها، فالفكرة الرئيسية التى تحكم وجدانها وعقلها عن العالم والوجود، والنفع والضر، والخير والشر، وعن الإنسانية والهمجية، وعن كل القيم والمعرفة، هو موجود لديها ومحدد وثابت ومعروف تماماً منذ مئات السنين، بل إن آمال الأمة ومستقبلها معروف أيضاً وهى موعودة به -النصر إن شاء الله- باعتبارها أفضل الأمم وخيرها. الأمة تثق تماماً بأن مستقبلها الذى تتمناه سيتحقق وهذا جيد ولكنها للأسف لا تدرى كيف ولا أى مستقبل بالضبط غير إخضاع البشرية بالقوة، تعتقد الأمة أن مستقبلها مرهون بالأقدار التى ستفعل لها أفضل مما تتمناه، ومرهون بالغيب الذى لا تعلم عنه شيئاً، وليس بالواقع الذى هى موحولة فيه، إنها مطمئنة لأنها موعودة بالنصر لأنها خير الأمم، وحتى الهزيمة بالنسبة لها شىء جيد وفضل وخير يلزم قبوله لأنها تكفير عن خطاياها وآثامها وذنوبها بابتعادها عن جادة الحق والصحيح والتنزيل والدين، وربما هذا بعض سبب أنها لم تعاقب من كانوا سبباً فى هزيمتها وضياع أرضها وموت أبنائها بل خرجت تحييهم وتستعيد سطوتهم.
ويسوق المنتفعون من الفكرة للموهومين بها أن ما يتم تحقيقه من إنجازات عالمية فى سائر المجالات الإنسانية والحقوقية بل والمنجزات العلمية والكوكبية موجود ومردود إلى تلك الفكرة التى أتت بالماضى العظيم وليس عليهم إلا انتظار المستقبل السعيد!
النصر والهزيمة، والعلم والجهل، والحرية والقهر، والشبع والجوع ليست فى عقل هذه الأمة من عندها ولا من جهدها وكدها وعقلها ودأبها، بل إنها تستنكف أن تقول إن شيئاً من عندها ومن إرادة أبنائها وشجاعة شبابها وتدين القائل (مثال: نصر أكتوبر والثورة)، ولذلك فإن النفى والتعذيب والسجن بل والقتل فى انتظار من يحاول أن يختلف أو حتى يعدد فى فهم تلك الفكرة عن المقبول السائد.
الفكرة تحكم الجميع تماماً وتمسك بهم تماماً فى عقولهم وقلوبهم وثقافتهم وفى واقعهم وحياتهم، وهذه الفكرة الثابتة الوحيدة فى أمة العرب لم تتغير رغم حواشٍ تُشبّه التعدد ولكنها لا تدخل لا فى الصلب ولا فى الجوهر، وما نراه هو مجرد نقد يعود ويرد إلى أصل هذه الفكرة، بل إن الذين خرجوا عنها بعضاً سرعان ما اعتذروا وعادوا ببعض أسف (طه حسين وزكى نجيب محمود مثلاً)، ليس مباحاً إنتاج أفكار طازجة من الواقع ولا تجريب أفكار على الواقع لا تقبلها رؤوس هؤلاء الذين ينتفعون من الفكرة الواحدة ويستفيدون منها سواء كانوا دينيين أو سلطويين.
وإذ كان ذلك كذلك فما ضرورة التغيير والتعدد والإبداع والجهد فى التحليل والتركيب والتفكير والنقد والإنتاج العقلى إذن؟ّ