عندما أعلن جمال عبدالناصر ــ الله يرحمه ــ قيام الاتحاد الاشتراكي العربي ــ الحزب الواحد والوحيد في البلد ــ تحت شعار "تحالف قوي الشعب العامل" خرج صوت الشاعر المبدع أحمد فؤاد نجم يغني ساخراً : "يعيش أهل بلدي وبينهم مفيش.. تآلف يخلي التحالف يعيش.. يعيش كل طايفة.. من التانية خايفة.. وتنزل ستاير بداير وشيش.. يعيش.. يعيش.. يعيش".
وبمرور الزمن وكثرة التجارب والتقلبات.. تعددت الطوائف في مصر وتنوعت.. صارت هناك طوائف سياسية ودينية واجتماعية ورياضية.. وتوزعت انتماءات الناس بينها فيما يشبه الانتماءات القبلية والعشائرية.. ولم تعد الطوائف تخاف من بعضها فقط.. بل صارت تجاهر بالكراهية المتبادلة.. والرغبة الجامحة في الانتقام والثأر من بعضها البعض.
كل طائفة لديها يقين بأنها مقتولة ومظلومة وحقوقها ضائعة.. ولا سبيل أمامها إلا الثأر من الطائفة أو الطوائف الأخري.. لم يعد السلام الاجتماعي في أحسن حالاته.. ولم يعد من السهل الحصول علي حد أدني من التوافق والمصالحة لدي جميع الأطراف.
الكل يرفع شعار الثأر.. والثأر يختلف كثيرا عن القصاص الذي فيه حياة لنا جميعاً لأنه يتم من خلال القانون.. ويتم بيد العدالة.. أما الثأر فهو الانتقام الذي يأخذه صاحبه بيده خارج إطار القانون وبعيدا عن العدالة.
الثأر عادة شعبية ذميمة تعكس الجهل والتخلف والقبلية والعرقية والطائفية وغياب الإحساس بالقانون وبالدولة.. لتصبح بديلاً عن المواطنة والمساواة أمام القانون.
التكفيريون يعملون بمنطق الثأر.. والإرهابيون الذين يزرعون المتفجرات يعملون بمنطق الثأر.. والمتظاهرون يعملون بمنطق الثأر.. ورجال الحزب الوطني العائدون للبرلمان يعملون بمنطق الثأر والألتراس يعملون بمنطق الثأر.. هذا كله واضح ومفهوم.. أما الخطر كل الخطر فيأتي من دعوة بعض الأبواق الإعلامية الجاهلة للدولة بأن تتبني نفس المنطق.. وتأخذ بالثأر.
الدولة يجب أن تنأي بنفسها عن منطق الثأر والمعاملة بالمثل.. بل عليها أن تتعامل بمنطق القانون.. أن تقبض علي المتهمين وتقدمهم للمحاكمة تطبيقاً لقانون العقوبات وليس بمنطق الثأر.. حتي ولو كان الحزن يملأ القلوب علي الأبرياء من شباب المجندين والضباط الذين يحصد الإرهاب الأسود أرواحهم بغير ذنب.
صحيح أن النفس بالنفس والعين بالعين والسن بالسن والجروح قصاص.. ولكن بالقانون وليس باليد.. والقانون هو الدولة.. وذلك لأن الثأر سيقودنا حتما إلي القتل علي الهوية.. قتل ضابط وشرطي لمجرد أنه ضابط وشرطي أو قتل طالب ومتظاهر لمجرد أنه طالب ومتظاهر.
إن مواجهة الجريمة لا تكون ثأراً أو انتقاماً باليد.. بل بالثقة في الدولة التي تمثل جميع المواطنين علي قدم المساواة.. التي ترثي للقاتل مثلما تسعي للحصول علي حق القتيل.. لا فرق في ذلك بين الجرائم المدبرة مثل الاغتيالات والكمائن وبين حوادث الطرق الناتجة عن الإهمال في القيادة.. ولا فرق بين شهيد عسكري وشهيد مدني.. بين جندي وطالب.. بين موظف ومزارع.. بين بدوي وحضري.
الدولة يجب أن تنظر لمواطنيها جميعا علي أنهم أكفاء متساوون في الحقوق والواجبات.. من ثم تتعامل معهم وفق الدستور والقانون مهما بلغ بهم الشطط.. فهذا ما يوطد أقدامها ويميزها عن القبيلة والعصابة التي تتعامل بالثأر.. والثأر عاطفة سلبية.. بل عاطفة عدمية لاينشأ منها إلا الخراب والضياع.. ولا ينتج عنها إلا الحقد والرغبة في الانتقام.