د. نصر محمد عارف
مستقبل مصر يبدأ بإصلاح التعليم (2)
تناول المقال السابق عنصرين أساسيين من عناصر إصلاح التعليم فى مصر؛ الأول هو أهداف وغايات العملية التعليمية التى تتمحور فى ثلاثة: بناء الإنسان، وتكوين المواطن، والإعداد الوظيفى لمهنة بعينها، والثانى هو هيكل النظام التعليمى من حيث تعدد وتنوع المسارات إلى تعليم دينى وآخر عام، وتعليم عام وآخر فني، وتعليم حكومى وآخر خاص، وتعليم مدنى وآخر عسكرى إلخ، وسوف نكمل فى هذه الحلقة ثلاثة عناصر أخرى هي: ثالثا: عناصر العملية التعليمية: وهى تتكون من ثلاثة عناصر أولا: المنهج، وهو جوهر العملية التعليمية وأهم عنصر تهتم بوضعه والتركيز عليه مختلف النظم التعليمية، والمنهج يشتمل على الكتاب المدرسى، والبرنامج التعليمى والأنشطة الصيفية واللا صيفية المصاحبة، وثانيا: التدريس، ويشتمل على جميع الطرق والوسائل والعمليات التى يتم توظيفها فى توصيل المنهج، وتقويمه وتحقيق أهدافه، وثالثا، إدارة العملية التعليمية، وتبدأ من وضع الأوزان النسبية للمقررات الدراسية، إلى توزيعها زمنيا حتى إدارة العلاقة بين التلميذ والمدرسة، وهى جزء مهم من العملية التعليمية، لأنها تمثل جانب التقاليد التى تشكل عقلية المتعلم، وثقافته وسلوكه، وقد تتفق نظم تعليمية عديدة على منهج واحد ولكنها تتمايز طبقا لنوعية ومستوى التقاليد التى تتبعها.وهذه العناصر الثلاثة تحتاج إلى تغيير جذري، لا يصلح معه الترقيع، أو الإصلاح الجزئي، لأنها وصلت إلى حالة من التخلف والفساد الذى لا يوجد فى مكان آخر من الدول التى تشبه حالة مصر، وعملية الإصلاح فى هذا المجال تحتاج إلى تشكيل لجان عليا لكل عنصر من هذه العناصر الثلاثة من أفضل الخبرات المصرية والعالمية، ولا بأس من الاستفادة بخبراء من الدول التى حققت قفزات مشهودة فى نظامها التعليمي، ثم يتم تشكيل لجان خبراء لدراسة أهم الممارسات العالمية فى تلك المجالات الثلاثة، بحيث ترفع كل منها تقريرها إلى اللجنة العليا المختصة بكل عنصر.
رابعا: المنهج التعليمي: وهو تلك التوليفة من العلوم والمعارف والأفكار والمعلومات والقيم والمهارات التى يتم تقديمها للمتعلم طيلة مراحل الدراسة، والمنهج هو أهم عناصر العملية التعليمية، وأهم منطلقات الإصلاح فى جميع النظم التعليمية على الإطلاق، إذ يستحيل تحقيق إصلاح حقيقى فى أى نظام تعليمى بدون البدء فى إصلاح جذرى بالمنهج.
وقد تطور وضع المناهج فى العالم بصورة متسارعة وجذرية بحيث نستطيع القول إن ما يوجد فى مصر بعيدٌ جداً عما هو موجود فى الدول التى حققت نهوضا تعليميا واقتصاديا مشهودا مثل سنغافورة أو فنلندا أو حتى البرازيل، حيث انتقلت تلك الدول إلى مراحل أعلى بينما لم تزل مصر فى المراحل التقليدية الأولي، وهذا ما حدث فى العالم.
فقد تم الانتقال من التعليم لتحصيل العلوم إلى التعليم لتحقيق مخرجات معينة يحتاجها سوق العمل، أى الانتقال من التعليم من أجل العلم والمعرفة إلى التعليم للاستجابة لاحتياجات سوق العمل، وضمان وظيفة معينة للخريج.
تم الانتقال من فلسفة تعليم تقوم على نقل المعارف والعلوم من جيل إلى جيل، بحيث يكون المتعلم فى موضع التلقى معظم الوقت، إلى فلسفة تعلم يكون دور العملية التعليمية إكساب المتعلم مهارات البحث الذاتى والتعلم الذاتي، ويقتصر دور العملية التعليمية على فتح طرق المعرفة، وبيان مناهج ووسائل الوصول اليها أمام المتعلم، وعليه أن يقوم بنفسه بالتعلم الذاتى طيلة حياته.
وتم الانتقال من تعليم العلوم والمعارف وما تحتويه من معلومات إلى تعليم القيم والمهارات، بحيث تتحول العلوم والمعارف والمعلومات إلى أدوات ووسائل لتوصيل القيم والتدريب على المهارات.
وتم الانتقال من تقديم منهج كامل فى صورة كتاب، إلى تقديم معايير معينة يستطيع المعلم أن يحققها من خلال مصادر تعلم يقوم المعلمون بتوفيرها للمتعلمين، وبذلك ينتهى مفهوم الكتاب المدرسي.
تم الانتقال من التقويم المعيارى الذى يحدد مصير المتعلم بين الرسوب والنجاح، بين التقدم والتراجع أو الخروج من العملية التعليمية إلى التقويم البنائى الذى يمكن المتعلم من التصحيح الذاتي، واستدراك الخطأ، واستكمال النواقص، ومن ثم تكون عملية التقويم عملية تعليمية، وليست قضائية أو محاسبية.
ولتحقيق إصلاح حقيقى فى مناهج التعليم فى مصر يجب أن يتم تشكيل لجنة من أساتذة التربية والخبراء المصريين المقيمين خارج مصر لعمل تصور مقترح لفلسفة وضع المناهج التى تناسب البيئة المصرية، ويتم تقديمه للجان وضع المناهج المختلفة للعمل طبقا له فى كل منهج على حدة.
خامسا: كيفية بناء المناهج العلمية (العلوم والرياضيات..): وهذه المناهج تحديداً تحتاج إلى رؤية جديدة وذلك لأننا أصبحنا نعيش فى عالم معولم، ولأن أحد أهداف الإصلاح التعليمى فى مصر تكوين رأس مال بشرى يستطيع أن يتحرك فى مختلف دول العالم للدراسة والعمل، ولأن المناهج العلمية أصبحت لغة عالمية تتضاءل فيها الخصوصيات، فإن بناء المناهج العلمية لجميع مراحل التعليم العام والفنى ينبغى أن يكون متواكبا مع المعايير العالمية فى هذه المناهج، فتعليم اللغات الأجنبية، والعلوم والرياضيات، والعلوم التطبيقية الذى يقدم فى المدارس الفنية أصبح عليه إجماع عالمي، لذلك ينبغى أن ينصرف التفكير إلى الانخراط بقوة فى هذه التوجهات العالمية، ولا حاجة للمخالفة والانعزال.
ومن هنا فإن الاستفادة من تجارب العالم الناجح، ونقلها بعد تكييفها ومواءمتها مع البيئة المصرية قد يكون هو البديل الأكثر نجاعة ونجاحا، ويقصد بالنقل هنا الاستفادة من المعايير والمخرجات والموضوعات، ووسائل التعليم، ومناهج التأليف، ثم يتم وضع المحتوى طبقا لمعطيات البيئة المصرية سواء فى العلوم بفروعها، أو الرياضيات بفروعها أيضا، ولكن تعليم اللغات الأجنبية ينبغى ألا يتم فيه أى تكييف، لأن المتعلم يتعلم هذه اللغات ليمارسها فى بيئتها، وليس البيئة المصرية.
ويحتاج الإصلاح فى هذا الباب إلى أن يتم تشكيل لجنة لكل منهج من المناهج العلمية تقوم بدراسة وتقويم أهم السلاسل العالمية فى مجالها واختيار واحدة منها، ثم بعد ذلك يتم تشكيل لجنة للتمصير والمواءمة والتعديل الذى يحافظ على الهوية والثقافة والقيم، ثم يتم ترجمة هذه السلاسل إلى اللغة العربية مع الحفاظ على المصطلحات باللغتين. وبهذا يمكن إصلاح المناهج العلمية التى هى بداية الانطلاق لبناء نهضة حديثة فى القرن الحادى والعشرين، كما كانت هى بداية الانطلاق لبناء نهضة مصر فى عصر محمد على باشا فى القرن التاسع عشر، وأيضا كانت هى البداية بعد ثورة 1952.. وللحديث بقية.