الأهرام
ابراهيم عرفات
عنــــاد الأوصياء
يرجع جزء كبير مما نعيشه يومياً من عناء إلى عناد الأوصياء. فكثير من اللامعين فى النخبات المختلفة يرون أنفسهم، برغم تواضع قدراتهم، المسطرة التى يجب أن يقيس الجميع نفسه عليها. إنهم لا يعتبرون أنفسهم نجوماً وإنما أوصياء. والوصاية لمن يدقق حولنا فى كل مكان. وصاية على الكلمة والتعبير. على الأخلاق والعدالة. على الدين والسياسة. على الجامع والجامعة. على الشباب والمرأة. على البرلمان القادم ومنافذ توزيع السلع. وصاية على الحيز العام كله اعتادت عليها فى الداخل قوى نافذة تعتقد أنها تفهم أفضل وتخاف على الوطن أكثر وأنها صاحبة الحق الشرعى الوحيد فى تحديد من يجب أن يبقى أو يُطرد من المجال العام.

وبجانب أوصياء الداخل هناك أوصياء الخارج. وقد سبق للخارج وبالقانون الدولى أن أعطى لنفسه حق الوصاية على بلدان كثيرة فى منطقتنا. ولا يزال يعطى لنفسه هذه الوصاية إما لأننا كما يسموننا بلداناً نامية لا تزال فى حاجة إلى إرشاد. أو لأننا بتنا نصدر تهديدات لم يعد ممكناً السكوت عليها. أو لأن المصالح الحيوية للقوى الخارجية تحملها على التدخل فى صنع القرارات وأحياناً فرضها باسم مسئوليات الوصاية.

ولعقود تلو أخرى تأسس خطاب كامل بل وثقافة كاملة للوصايةمن أكثر الناس على كل الناس. ثقافة تبيح باسم الخوف على المجتمع أحياناً ومن المجتمع أحياناً أخرى وباسم الخوف على الدولة تارةً والخوف منها تارة أخرى إلغاء حق الآخرين فى التفكير والتعبير والتصرف، لتبدأ جماعات دينية وأقليات مهنية وسياسية واقتصادية فى احتكار الحقيقة وتصوير نفسها على أنها القيم الموثوق على تصرفات الناس والأولى بصناعة السياسة واتخاذ القرار. وإذا كان الأب فى الأسرة الصغيرة يعطى نفسه باسم الخوف على الأسرة الوصاية على كل من فيها، فإن شيئاً قريباً من هذا يحدث فى الأسرة الوطنية الكبيرة. فى الأسرة الصغيرة قد يصادر الأب حق باقى الأفراد فى التصرف ويعتبرهم مجرد ملحقات بيولوجية عليها الخضوع والاتباع.أما فى الأسرة الوطنية الكبيرة فالمصادرة أوسع.

بعض أصحاب الحظوة الإعلامية من رجال الدين مثلاً يتصرفون كأوصياء على أدق تفاصيل حياة الناس. كشف بعضهم مؤخراً عن خطاب الوصاية الدينى الراسخ فى ذهنه عندما حجر على النساء إضافة أصدقاء لهن من الرجال على حسابهن على الفيسبوك. وتهون وصاية المشايخ الرسميين أمام خطاب الوصاية البشع الذى تمارسه جماعات دينية معاندة عذبت هذا الوطن كثيراً وأشقته. جماعات نصبت نفسها وصياً على عقول الناس بل وأرواحهم. تقتلهم لو أرادت لأنها ترى نفسها حكماً على الأخلاق أعطاها الدين، كما تتوهم، الوصاية على الدين نفسه.

لكن خطاب الوصاية ليس دينيا فقط بل ومدنى كذلك. ولا تقل الوصاية المدنية خطورةً عن الوصاية الدينية لأنها تقتل الناس بطريقة أخرى عندما تغلق الطريق أمامهم للمشاركة فى كل حيز عام. خذ مثلاً البرلمان القادم.فمن الواضح مقدماً سيطرة عقلية الوصاية عليه. أو ليس غريباً مثلاً أن تُعطى قائمة لنفسها الوصاية على أعضاء ومقدرات البرلمان بحجة أنها تدعم الدولة؟. فمن بالله فى نظركم من المصريين لا يدعم الدولة اللهم إلا نفراً شارداً يعاقبه المجتمع قبل أن تعاقبه الدولة. هذه القائمة التى سطع نجمها فجأة بدون تاريخ بطولى يؤهلها لهذه المكانة لا تفعل إلا ما فعله أصحاب العقليات الوصائية فى البرلمانات السابقة الذين ظنوا أنهم الأخوف على الوطن والأفهم للحال وللمال، وبالتالى لا يجب الاعتراض عليهم وإلا لكان ذلك خيانةً للوطن. ولا يقل خطراً عن الأوصياء على التشريع الأوصياء على الثقافة الذين ظنوا تارة أنهم مبعوثو العناية الإلهية ويعتقدون تارةً أخرى أنهم حاملو رسالة الإنقاذ الوطنى.

لقد باتت الحياة وصاية فى وصاية. فى الشارع أوصياء. بين الجيران أوصياء. فى الرياضة أوصياء. بطول وعرض البلد كثيرون يتكلمون بمنطق الوصاية. وماأن تدقق فى مفردات خطاب مسئول أو تراجع تصرفاته إلا وتكتشف هيمنة ثقافة الوصاية عليه. باليقين هو مؤتمن على المؤسسة التى يقودها وعليه أن يؤدى الأمانة. لكنه أبداً ليس بوصى عليها. فالمؤتمن يدير الأمانة ويؤديها. أما الوصى فيشعر، ما لم يذكره الناس، بأنها ملك له. وما سيكولوجية الوصاية النافية لحق الناس فى أن يكونوا أنفسهم إلا جزءًا من سيكولوجية الشخصية السلطوية. فالوصى ما لم يكن معيناً لفترة محددة وبقبول واسع ولهدف بعينه سيرى نفسه فوق النقد والمساءلة وصاحب حق التصرف بلا مراجعة.

لقد جاءت نظم حكم ورحلت أخرى وبقيت ثقافة الوصاية كما هى. إنها مكون أصيل للشخصية الاجتماعية المصرية. ومن الطبيعى لهذا السبب أن تفصح عن نفسها فى كل شىء بما فى ذلك السياسة. لقد باتت الشخصية السياسية المصرية وصائية. وهذه مشكلة ليست سهلة. لأن الأوصياء وإن زاد خوفهم على أمن واستقرار وسلامة المجال العام إلا أنهم أول من يضر به عندما يغلقونه ويفرضون تصوراتهم عليه ما يدفع الناس إلى الهرب إلى منافذ أخرى بعيدة عن العلنية. ولا يبدو فى المدى المنظور أن عناد الأوصياء سيزول. إنها ثقافة وقناعات يجسدها خطاب دينى وسياسى وإعلامى يبث الخوف باستمرار لكى يبرر فرض الوصاية على المال العام والرأى العام والحيز العام بالتضييق عليها وحصر القرار إما فى يد قائمة انتخابية أو شلة من الأغنياء أو قلة من الأقوياء. وكلهم معاندون يرفضون فكرة الحيز العام المفتوح ويتصدون بلا هوادة لكل من ينبه إلى خطورة الوصاية عليه. فالحل عند أصحاب العقول الوصائية مزيد من الوصاية. وهم لا يعدمون فى ذلك مبررات أبرزها ما نواجه من تهديدات خارجية. وهذا صحيح. فالخارج بدوره يتصرف بطريقة وصائية. سبق له أن كان وصياً ومنتدباً لإدارة شؤون منطقتنا كلها. وها هو اليوم يعود ليرسل قوات وأسلحة ويبنى قواعد تمهد من جديد لإنفاذ وصايته على جغرافية الأوطان ومن ثم سياستها واقتصادها وثقافتها. وإذا كانت الوصاية من الخارج درجة من درجات الاستعمار إلا أن قوى فى الداخل هى التى مهدت له بسبب عنادها وإصرارها على احتكار الوصاية لنفسها على كل الحيز العام. قوى جعلت ذلك الحيز مهلهلاً هشاً. ومع أن الحل الوحيد هو إعادة الروح إلى هذا الحيز إلا أن عناد الأوصياء يحول دون ذلك. يعتقدون أنهم بالوصاية يخافون على الوطن ولا يرون أنهم بالوصاية يخوفون الناس أكثر على مستقبل الوطن.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف