تجليات متنوعة للعداء بدأت تطفر على مستوى الخطاب الرسمى السودانى «البشيرى»، وداخل الخطاب الإعلامى الذى دأب -مثله فى ذلك مثل إعلام دول العالم الثالث- على العزف على ما يلفظ به عمر البشير رئيس الدولة.
السودان كانت جزءًا من مصر، بل وإثيوبيا أيضاً. كاد نهر النيل فى فترة من الفترات أن يصبح بحيرة مصرية. فقد حرص الوالى محمد على، الذى يوصف بـ«مؤسس مصر الحديثة»، على السيطرة على النيل، فى ظل ارتكاز اقتصاد الدولة المصرية حينذاك على «الزراعة» وتصدير المحاصيل الزراعية، وكان أشهرها القطن.
ومن المعلوم أن «ملك مصر والسودان» كان اللقب الذى يوصف به «فاروق» آخر ملوك مصر، ثم ولده فؤاد الثانى الذى وُضع تحت الوصاية بعد قيام ثورة يوليو 1952.
وكان يحلو للمصريين قبل 1952 الهتاف ضد الاحتلال بعبارة: «مصر والسودان لنا.. وإنجلترا إن أمكنا»!.
محمد نجيب أول رئيس للجمهورية بعد الثورة ولد فى السودان وتعلم فيها، ويقال إن أمه كانت سودانية وإن أباه كان مصرياً، والرئيس أنور السادات ثالث رؤساء مصر بعد الثورة، كانت أمه سودانية. وقد ظلت السودان جزءاً من مصر إلى عام 1954، عندما وقعت حادثة المنشية الشهيرة فى مارس من هذا العام، وتعرض الرئيس عبدالناصر لمحاولة اغتيال، اتهمت فيها جماعة الإخوان، وكان من نتائجها الإطاحة بالرئيس «نجيب»، والنكوص عن مشروع الوحدة بين مصر والسودان، ووافقت مصر على منح السودانيين استقلالاً كاملاً وحكماً ذاتيا، بعيداً عن السيطرة المصرية.
ومنذ ذلك التاريخ أصبح لمصر رئيس وللسودان رئيس، وبدأت الدولة تتبنى سياسة اقتصادية جديدة ترتكز على شعار «مصر دولة صناعية»، وأخذ الخطاب الرسمى يردد أن «مقولة أن مصر دولة زراعية مردها الاستعمار»، وأن بإمكاننا أن نصبح دولة صناعية.
كان حلم التنمية والانطلاق يداعب المصريين جميعهم، وتصالح أغلبهم على الاتجاه إلى الصناعة، وكانت حصة مصر من ماء النيل مأمونة باتفاقيات تاريخية، وتكفى احتياجاتنا للزراعة والرى.
انفصال السودان عن مصر عام 1954 بدا طبيعياً، فى ظل حركات التحرر والاستقلال التى اجتاحت دول العالم الثالث، ربما تأسس القرار المصرى حينها على حسابات معينة تتصل بعلاقة مصر بإنجلترا، فى كل الأحوال كان ذلك هو منطق العصر، لكن ذلك لا ينفى عن أنظمة الحكم المتعاقبة فى مصر بعد ذلك الإهمال فى الملف السودانى، وعدم الاستفادة من العلاقة التاريخية التى ربطت ما بين الشعبين المصرى والسودانى. ربما كان الرئيس السادات هو الاستثناء الوحيد فى حكام مصر ما بعد 1952 الذى ظل حريصاً على تفعيل تجربة للتكامل بين البلدين، لكن القدر لم يمهله، واستشهد فى حادث المنصة الشهير عام 1981، وبعده أهملت مصر الملف السودانى، وكان من نتائج هذا الإهمال أن تم شق السودان إلى دولتين (الشمالى والجنوبى) قبل ثورة يناير 2011 بأسابيع قليلة، فى ظل حالة نوم تشبه الموات فى مصر، وتزامن مع انفصال «الجنوب» انطلاق العمل فى سد النهضة الإثيوبى.
ومن التغفيل أن يتصور البعض أن نظام «مبارك» كان حائلاً دون قيام إثيوبيا بالشروع فى بناء سد النهضة، فلو كان كذلك لما أهمل ملف السودان والملف الأفريقى ككل، بعد محاولة اغتياله فى أديس أبابا.