الأهرام
احمد عبد المعطى حجازى
كذب الظن.. وصدق المعرى !
أريد فى حديث اليوم أن أستكمل ما قدمته فى الأسابيع الأخيرة حول وحدة الحضارة الإنسانية والدور الذى أديناه فيها.
لقد بلغت الحضارة الانسانية فى هذه العصور الحديثة طورا متقدما أوشك فيه البشر أن يخرجوا من كهوف الخرافة والطغيان ليقتربوا أكثر من مدن العقل والحرية. صحيح أن العقبات لاتزال كثيرة متلاحقة، وأن ما نواجهه منها فى الحاضر ليس أقل أو أهون مما اجتزناه فى الماضي. لكننا اجتزنا الكثير. وهو دليل على القدرة وسبيل للتفاؤل. ولاشك فى أن الغربيين أدوا فى هذا الطور الحضارى الأخير دورا مشهودا، لكنهم لم يخلقوا من العدم، وإنما بنوا على الأساس الذى أرساه الآخرون. المصريون، والبابليون، والهنود، واليونان، والرومان، والفرس، والعرب.

هذه الحقيقة التى يؤيدها العلم ويشهد لها التاريخ تجد من ينكرها ويحاربها فى الشرق والغرب على السواء.

جماعات الاسلام السياسى بأجنحتها المختلفة تنكرها وتحاربها. لأن اعترافها بها انكار لنفسها، فالإسلام فى نظر هذه الجماعات ليس دينا فحسب، ولكنه دين ودولة. علم وعمل. ماض وحاضر. أو ماض يتكرر فى الحاضر والمستقبل. وكل ما لم يكن فيه من قبل لا يصح أن يكون فيه من بعد. فالديمقراطية فى نظر هذه الجماعات شرك، والعقلانية تجديف وإلحاد. وكل ما اكتشفه الغربيون وما سوف يكتشفونه موجود سلفا فى كتبنا المقدسة التى يجب علينا أن نكتفى بها ونستفيد مما جاء فيها على نحو ما صنع بعض علماء باكستان الذين وجدوا فى القرآن الكريم أن الجن مخلوقة من نار فقرروا أن يستحضروها ليولدوا منها الطاقة. هكذا وإلا فهى الحرب التى أعلنتها جماعات الاسلام السياسى علينا وعلى العالم فى هذه الأيام!

والهراء الذى تردده جماعات الاسلام السياسى عندنا لا سيما الجماعات السلفية تردده ماريان لوبن زعيمة حزب «الجبهة الوطنية» فى فرنسا، ودونالد ترامب المرشح الجمهورى للرئاسة فى أمريكا. وهذا دليل قاطع على وحدة الحضارة الانسانية. فالمتحضرون فى كل بلاد العالم معسكر واحد، والهمج العنصريون فى الشرق والغرب معسكر واحد. والحضارة عند لوبن وعند ترامب وأمثالهما مصدرها الغرب وحده. العقل اكتشاف غربي، والحرية صناعة غربية، والقوة بالتالى والثروة والسيطرة على العالم حقوق غربية. وليس أمامنا نحن إلا أن نخضع وندفع!

من هنا يكون وعينا بوحدة الحضارة الإنسانية شرطا لازما وطاقة دافعة فى المعركة التى نخوضها مع جماعات الاسلام السياسى والعنصريين الغربيين لنخرج كما خرج غيرنا من كهوف الخرافة والطغيان ونقترب كما اقتربوا من مدن العقل والحرية.

صحيح أننا انقطعنا طويلا عن هذا التيار العقلانى الذى عرفته الحضارة العربية الاسلامية فى عصر ازدهارها وتمثل فى فكر المعتزلة من ناحية وفى فلسفة ابن رشد من ناحية أخري، ولم يقدر له فى معركته مع كهنة النقل والتقليد أن ينتصر. فقد حاصره الأشاعرة فى العراق، وحاصره المالكية فى الأندلس. ثم جاءت الحروب الصليبية لتضع المسلمين فى موقف الدفاع عن النفس وتحبسهم داخل حدودهم، وتثير خوفهم من العقل والحرية، تفرض عليهم العزلة والانصياع لفقهائهم الببغاوات وحكامهم الطغاة. وهى الأوضاع التى تكررت عندنا فى هذا العصر بعد قيام اسرائيل التى أخرجنا وجودها الظالم من مناخ النهضة، وخنق فينا روح الاكتشاف والاجتهاد، ووضعنا موضع الدفاع عن هويتنا فارتددنا إلى الماضى بدلا من أن نغزو المستقبل، ورضينا بحكم المستبد أملا فى أن يوحد صفوفنا ويستنهض قوانا ويقودنا إلى النصر فكانت النتيجة سلسلة من الهزائم المرة التى فرضت علينا ما واجهناه ولا نزال نواجهه من صور الطغيان التى أصبحت تتبادلنا كما تتبادل الكرة أقدام اللاعبين. الطغيان السياسى يسلمنا للطغيان الديني. وهذا يعيدنا لذاك. وكما نكل الأشاعرة بالمعتزلة وأحرق المالكية مؤلفات ابن رشد ونفوه إلى أليسانه نكل خلفاؤهم المعاصرون بمؤلفات نجيب محفوظ، وقتلوا فرج فوده، وفرقوا بين نصر حامد أبوزيد وزوجته ونفوهما خارج البلاد.

غير أن هذه الهزائم المرة التى حاقت بنا وضيعت علينا الكثير مما حققناه لا تمنعنا من أن نرفع الراية من جديد، وأن نسقط حكم الطغيان بوجهيه كما فعلنا فى الثورتين المجيدتين اللتين استعدنا بهما مناخ النهضة وروحها، ونحيى تراثنا العقلانى ونعيد اكتشافه ونواصل العمل فيه ونستكمله بما استخلصناه من تجاربنا ونقلناه عن غيرنا، فالحضارة الإنسانية حضارة واحدة، والذى نملكه فيها لا يقل عما يملكه الآخرون.

تراثنا العقلانى حافل بالأعمال والأسماء. وهو لا ينحصر فى فكر المعتزلة وفلسفة ابن رشد، وإنما نجده أيضا فى إنجازات العلماء العرب وفى كتابات الأدباء وقصائد الشعراء.

يكفى أن نقرأ ما قاله تو بى هاف عضو هيئة التدريس بجامعة ماساشوسيتس بالولايات المتحدة فى كتابه «فجر العلم الحديث» عما قدمه العرب فى مجال البحث العلمي. يقول بالنص «منذ القرن الثامن ـ الميلادى حتى نهاية القرن الرابع عشر ـ يعنى سبعة قرون كان العلم العربى على الأرجح ـ أكثر العلوم تقدما فى العالم. وقد تجاوز كثيرا ما كان فى الغرب وفى الصين فى كل ميدان للبحث. فى الفلك، والكيمياء، والرياضيات، والطب، والبصريات». حساب المثلثات ابتكره العرب. ولم يصل أحد إلى المستوى العالى الذى وصل إليه الطلبة المسلمون فى علم الضوء بفضل ابن الهيثم. وفى الفلك أدت الخطوات المتنوعة إلى اكتشاف نظام للأجرام يعادل رياضيا ما توصل إليه كوبر نيكوس.

والذى نجده فى كتاب توبى هاف نجده فى كتاب بارتولد «تاريخ الحضارة الاسلامية»، ونجده بالطبع فى كتاب الأستاذ العقاد «أثر العرب فى الحضارة الأوروبية». فمن احتاج للمراجعة أو طلب التفصيل فعليه أن ينظر فى هذه الكتب. والأول والثانى مترجمان للغة العربية.

ولا أنهى هذا الحديث حتى أقدم لكم أمثلة مما قاله الشاعر العظيم أبوالعلاء المعرى فى تمجيد العقل والانتصار له والتنديد بالحكام الطغاة وفقهائهم المرتزقة.

يرتجى الناس أن يقوم إمام

ناطق فى الكتيبة الخرساء

كذب الظن، لا إمام سوى العقل

مشيرا فى صبحه والمساء

فإذا أطعته جلب الرحمة

عند المسير والإرساء

إنما هذه المذاهب أسباب

لجلب الدنيا إلى الرؤساء!

والمعرى يقول فيذكرنا بما أصبح يقوله مفكرو الاستنارة فى غرب أوروبا من أمثال جروسيوس الهولندى وجون لوك الانجليزي، وفولتير الفرنسي.

مل المقام فكم أعاشر أمة

أمرت بغير صلاحها أمراؤها

ظلموا الرعية واستجازوا كيدها

فعدوا مصالحها وهم أجراؤها!

وهناك سؤال يجب أن نطرحه وأن نجيب عليه. فإلى الأربعاء المقبل.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف