حسن ابو طالب
هل أخطأنا بالتفاوض مع إثيوبيا؟
لا يمكن تصور حياة تسعين مليون مصرى بدون مياه النيل. هذه حقيقة تعنى، حال حدوثها، موت شعب بكامله، ولكن قبل ذلك، هل يمكن الانتظار حتى تحدث مثل هذه الكارثة الكبرى؟ بالطبع لا، فهناك بالقطع طرق وأساليب على مصر أن تفكر فيها بكل أريحية ودون اعتذار من أحد. ولا يعنى ذلك بالضرورة التفكير فى بديل القوة وحده، بل فى بدائل أخرى ذات طابع سياسى وسلمى ودعائى، وفى مقدمتها التفاوض المتتالى مكتمل الأركان فى زمن محدد، وبعدها لكل حادث حديث.
هذه المقدمة تؤمن بأن التفاوض ليس فقط الحوار بين المندوبين أو الوزراء فى الغرف المغلقة، ولكنه قبل ذلك إعداد بيئة التفاوض الخلفية والقائمة على توظيف كل إمكانات الدولة فى تناغم وانسجام تامين، مع التدرج فى استخدام أوراق الضغط المساعدة وفقاً لكل مرحلة من مراحل التفاوض وحدود التقدم أو التراجع الحادث. أقول ذلك وعينى على المفاوضات الثلاثية بين مصر والسودان وإثيوبيا بشأن سد النهضة والتى تحولت فى جولة أخيرة عُقدت فى الخرطوم إلى سداسية بمشاركة وزراء الخارجية جنباً إلى جنب وزراء الرى فى الدول الثلاث، وهى الجولة التى وُصفت بالفاشلة على الأقل جزئياً لأنها لم تعالج ما نصفه إعلامياً بالشواغل المصرية، وهى فى الحقيقة مخاوف كبرى تتعلق ليس فقط باحتمال نقص حصتنا المائية المتواضعة أصلاً وقوامها 55.5 مليار متر مكعب سنوياً، بل باحتمال انهيار السد ذاته لأسباب فنية خاصة فى حال اكتمال التخزين بإجمالى 74 مليار متر مكعب، مع ما يترتب على ذلك من دمار هائل فى كل السودان وأجزاء كبرى من جنوب مصر. وفى كل الأحوال هناك خسائر ستحدث حتماً يعرفها المتخصصون جيداً وتكون بعيدة تماماً عن أذهان الغالبية العظمى من المصريين.
ومجمل ما سبق أن الدخول فى مفاوضات بشأن أمر حيوى ليس عيباً فى حد ذاته، ولكن العيب الخطير أن ندخل المفاوضات دون الاستعداد المناسب، وبدون خطة عمل ودراسات محكمة تراعى كل المطبات الوارد حدوثها فى كل مرحلة من مراحل التفاوض، وبدون فريق تفاوض مكتمل الأركان يتضمن قانونيين وفنيين وسياسيين ومتخصصين فى الاتصال والتحليل النفسى، جنباً إلى جنب وضع جدول زمنى صارم للمفاوضات فى ثلاثة أو ستة أشهر، وأن تكون هناك مرجعية رئاسية تجتمع على الأقل بعد الثلاثة الأشهر الأولى لتقييم المفاوضات، لا أن تكون مفتوحة زمنياً وبلا ضوابط. وفى اعتقادى أن الوصول إلى هكذا تفاوض جاد ما زال قائماً إذا راجعنا أخطاءنا جيداً والتى يمكن تلخيصها فى أربعة أخطاء كبرى يجب مراجعتها فوراً. أول هذه الأخطاء هو التفاوض مع افتراض حُسن النوايا فى الأطراف الأخرى المقابلة. ومن هنا تم التساهل فى صياغة اتفاق المبادئ بحيث خلا تماماً من بيان حقوق مصر التاريخية والتى لا يمكن التنازل عنها مهما كان الثمن، فضلاً عن الاعتراف القانونى الضمنى بالسد وشرعيته دون ربط ذلك بحقوق مصر المائية. لقد شكّل بالفعل اتفاق المبادئ العشرة الذى وقّع عليه زعماء الدول الثلاث فى الخرطوم فى مارس الماضى إطاراً عاماً للتفاوض مستخلصاً من المبادئ العامة للقانون الدولى الخاص بالأنهار، لكنه افتقد إلى نقطة أساسية ندفع ثمنها الآن وهى خلوّ هذا الاتفاق من تحديد حقوق مصر المائية المحددة فى مواثيق دولية مقابل الاعتراف بحق كل دول النهر فى توظيف النهر من أجل التنمية. وقد قيل وقتها إن ذلك مفهوم ضمناً فى مبادئ القانون الدولى، وهو تبرير ثبت وهنه، أو على الأقل تصرف الطرفان السودانى والإثيوبى وكأن هذه الحقوق ليست موجودة أصلاً لأنها لم تُذكر صراحة فى الاتفاق. وهو ما يجب علاجه دون كلل فى أى جولات تفاوض مقبلة.
حُسن النوايا على هذا النحو سمح للجانب الإثيوبى بأن يفرض التفاصيل الفنية باعتبارها هى جوهر التفاوض، من قبيل سلامة السد ومعايير الأمان وسنوات الملء وطريقة الإدارة فى المستقبل، وذلك بعيداً عن المعلومات التفصيلية التى يُنشأ عليها السد بالفعل، وأيضاً بعيداً عن المسائل القانونية والسياسية رغم أن هذه المسائل الفنية تابعة للأبعاد السياسية والقانونية وليست منفصلة بحد ذاتها. وبالتالى جرى التفاوض فى بيئة فراغية بالمعنى الحقيقى للكلمة.
الخطأ الثانى هو عدم دخول الرأى العام المصرى على خط المفاوضات، بمعنى أنه تم تغييب الرأى العام عن حقيقة ما يجرى. صحيح كانت هناك تصريحات رسمية بعد كل لقاء تفاوضى وبعض المعلومات الفنية، ولكنها لم تكن تشكل أى دعوة لوقوف الرأى العام وراء المفاوض المصرى فى قضية تخص حياته ووجوده، وتم التعامل مع المفاوضات باعتبارها مسائل لا تهم الشعب وتخص فقط المتخصصين والعلماء، الذين بُحّ صوت بعضهم حول المخاطر المحققة إن استمر الوضع على ما هو عليه دون جدوى. والأمل أن يُسهم البرلمان الجديد فى إنهاء هذا الخطأ الجسيم من خلال متابعة دقيقة لسير المفاوضات والتعاون مع الحكومة من خلال وضع ضوابط على المفاوضات المستقبلية على النحو المُشار إليه آنفاً. الخطأ الثالث يتمثل فى عدم توظيف القدرات المصرية المعنوية وعلاقاتنا العربية والدولية والأفريقية بموازاة المفاوضات وبما يمثل بيئة ضغط على أى طرف يحاول أن يحرم مصر من حقوقها المائية. وكلنا نتذكر أن إثيوبيا فى زمن الرئيس الأسبق مبارك، وحين لم تكن قادرة على البدء بطوبة واحدة فى بناء السد، استغلت غياب مبارك نفسه عن الفعاليات الأفريقية المختلفة فى تصوير مصر باعتبارها بلداً مناهضاً لحقوق الأفارقة فى التنمية عامة وحقوق الإثيوبيين خاصة. وأعتقد أن سياسة مصر النشطة الآن فى أفريقيا بوجه عام ومع إثيوبيا بوجه خاص قضت على مثل هذه الدعايات، ولكنها لم توظف هذا النشاط فى خلق بيئة تفاوض أفريقية تدعم الحقوق المصرية التى لا يمكن لأحد أن ينكرها إلا إذا كان مُعادياً للشعب المصرى ويعمل على فنائه، كما لم تقم بما يجب القيام به مع العواصم العربية التى وقفت فى أحد الأيام مناصرة للسد كوسيلة للضغط على مصر زمن الإخوان، وهو ما لا يجوز أن يحدث بعد أن تحرر المصريون من جماعة الشر والإرهاب هذه. أما الخطأ الرابع فهو عدم قراءة الموقف السودانى بطريقة جيدة، والذى تعامل مع السد الإثيوبى باعتباره هدية من السماء، وتجاهل تماماً المخاطر المرجحة بقوة على كل السودانيين قبل المصريين.