كانت مجرد إشارة عابرة في هذه الزاوية يوم الاثنين الماضي عن خطورة تشكيل ائتلافات جغرافية ومناطقية في مجلس النواب الجديد.. ولكن مع الوقت تبين أن الإشارة العابرة لم تعد كافية.. وأن الأمر في حاجة إلي وقفة جادة وحكيمة ومتبصرة لوقف ظاهرة الإئتلافات والتكتلات الجغرافية التي بدأت تظهر في البرلمان بما تحمله من بوادر انقسام وتقسيم مرذول.. حتي لا نتحسر في يوم ما كما تحسر حكيم العرب القديم دريد بن الصمة وهو يقول: "أمرتهم أمري بمنعرج اللوي.. فلم يستبينوا النصح إلا ضحي الغد".
كان مقال الإثنين الماضي بعنوان "برلمان منزوع السياسة" وكان محوره الأساسي التحذير من مغبة مصادرة المنافسات السياسية تحت قبة البرلمان بالبرامج والأفكار والتوجهات.. والإتجاه إلي احتكار العناوين الوطنية لمجموعة برلمانية دون الآخرين.. خصوصا إذا كانت هذه العناوين ذات مضامين فضفاضة لا تحتمل الاتفاق والاختلاف.. ولا تعني إلا أن يتحدث الجميع لغة واحدة وبصوت واحد.. وفي هذا السياق جاء ذكر التحذير أيضا من الائتلافات والتكتلات التي يجري تشكيلها علي أساس جغرافي.. وكان مثالها الأوضح والأوحد هو ائتلاف نواب الصعيد.
قلت في ذلك إن تشكيل ائتلاف أو تكتل في البرلمان علي أساس جغرافي سوف يكون تمهيدا وتكريسا للتقسيم الجغرافي والتعصب القبلي المذموم في الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة التي نص عليها الدستور.. ولو قام نواب المناطق الأخري الجغرافية بتشكيل ائتلافات منافسة لنواب الدلتا أو منطقة القناة أو الواحات لوقعت الكارثة.. وأصبحنا أمام مشكلة حقيقية.
ومما يؤسف له انه خلال اليومين الماضيين تحقق ما تخوفت منه.. وأعلن عن تدشين أربع كتل أو ائتلافات جغرافية بين النواب.. في حين لم يظهر حتي الآن ائتلاف سياسي واضح المعالم وواضح الرؤية والتوجه.. وكان أبرز الائتلافات الجغرافية "كتلة نواب الصعيد" التي أعلنت أنها ستسعي لترشيح عدد من أعضائها في مناصب وكلاء المجلس واللجان البرلمانية.. ثم كتلة نواب الإسكندرية.. وكتلة نواب مرسي مطروح.. وكتلة نواب الجيزة.
والهدف المعلن لهذه الكتل هو المساهمة في حل مشكلات المحافظات التي يتبعونها.. وحصول نواب كل محافظة علي أقصي قدر من المكاسب لمحافظتهم.. الأمر الذي يعني مباشرة تكريس فكرة نائب الخدمات وتهميش بل قتل النائب السياسي الذي دخل البرلمان ليصبح نائبا عن الشعب كله.. وليس نائبا عن دائرته وحدها.. وعليه أن يمارس دوره الرقابي والتشريعي باسم الشعب وليس باسم الدائرة.. أما الخدمات وحقوق المواطنين فتلك مهمة الحكومة.. وهي تسأل إذا أهملت في ذلك.. والسؤال هنا يكون من منطلق وطني قومي وليس من منطلق جغرافي تقسيمي مناطقي.. يكون بالأدوات البرلمانية المعروفة - طلب الإحاطة والسؤال والاستجواب - وليس بالجري وراء الوزراء والمحافظين للحصول علي تأشيراتهم.
وبكل صراحة.. أخشي لو انتشرت ظاهرة الكتل البرلمانية الجغرافية أن تتحول المنافسة تحت قبة البرلمان من منافسة سياسية إلي منافسات ومصادمات جغرافية وعصبيات قبلية.. حيث تتعصب كل مجموعة من النواب لمحافظتها ودوائرها.. ونقع في فخ التقسيم.. ويتحول البرلمان الوطني إلي ساحة للصراع بين الأقاليم والمحافظات وإثارة النعرات والعصبيات.
أعرف.. ونعرف جميعا - أن ظاهرة نائب الخدمات والرشاوي الانتخابية ليست إلا مظهرا لضعف الأحزاب وتهافت الممارسة السياسية.. وللأسف لم نصل إلي حل حقيقي لعلاج هذه الظاهرة السلبية.. أما تشكيل الكتل والائتلافات الجغرافية تحت قبة البرلمان فسوف تقضي علي الحياة البرلمانية والسياسية.. وندخل في صراعات التفكيك.