قدمت الانتخابات المحلية في فرنسا "انتخابات المناطق" درساً مهماً لكيفية مواجهة القوي المتطرفة وهزيمتها ديمقراطياً عبر صناديق الاقتراع تجنباً لأية مواجهات في الشوارع قد تحدث فتنة وانقساماً.. وقد تدفع بالمجتمع الفرنسي في أتون الكراهية والصدام.
التجربة الفرنسية ذكرت العالم من جديد بأن الديمقراطية هي الحل.. وبأن الأزمات السياسية يجب أن تحل بالأدوات والوسائل السياسية السلمية الديمقراطية.
في 6 ديسمبر الجاري أجريت الدورة الأولي لانتخابات المناطق.. وفوجيء الفرنسيون بأن حزب الجبهة الوطنية اليميني المتطرف قد حقق فوزاً تاريخياً.. وحصل لأول مرة علي 28% من الأصوات.. وتصدر النتائج في 6 مناطق من إجمالي 13 منطقة.. وخرحت تصريحات قادة الحزب كلها استفزاز.. تراهن علي اكتساح الدورة الثانية من الانتخابات.. واستندت هذه التصريحات إلي عاملين مهمين: الأول هو الرفض الشعبي للأحزاب التقليدية.. اليمينية واليسارية.. غير القادرة علي حل الأزمة الاقتصادية.. والثاني هو الخوف الناجم عن الهجمات الإرهابية الأخيرة في باريس في 13 نوفمبر الماضي التي راح ضحيتها 130 قتيلاً.
ومعروف أن حزب الجبهة الوطنية الموصوف دائماً بالحزب اليميني العنصري المتطرف.. والذي ترأسه ماري لويان ـ 47 عاما ـ يتخذ موقفاً عدائياً متشدداً ضد الأجانب بصفة عامة والمهاجرين العرب والمسلمين علي وجه الخصوص.. وضد الإسلام والمساجد والحجاب.. كما يرفض الوحدة الأوروبية.
ولذلك أصيبت قطاعات عريضة من الشعب الفرنسي بالفزع بسبب هذه النتيجة غير المتوقعة التي حققها حزب الجبهة الوطنية في انتخابات الدورة الأولي علي حساب الحزبين الكبيرين التقليديين.. الحزب الاشتراكي الذي يرأسه رئيس الجمهورية أولاند والحزب اليميني الذي يرأسه رئيس الجمهورية السابق ساركوزي زعيم المعارضة حالياً.
وكان الحل السريع لإنقاذ فرنسا من اليمين المتطرف هو تشكيل تحالف انتخابي سريع بين الحزبين المتنافسين لمواجهة هذا الخطر الزاحف.. وبالفعل تم التنسيق بينهما بحيث يتنازل كل منهما للآخر في مناطق نفوذه ويتكتل الناخبون من اليمين واليسار ضد حزب الجبهة الوطنية المتطرف.. وكان لهما ما أرادا.
انتهت الانتخابات وظهرت النتيجة النهائية بفوز اليمين ـ حزب ساركوزي ـ بسبع مناطق من بينها منطقة باريس العاصمة التي انتزعها من أيدي الاشتراكيين منهياً بذلك احتكاراً يسارياً استمر 17 عاماً.. وفي المقابل تمكن الحزب الاشتراكي الحاكم من أن يحد خسائره وفاز بخمس مناطق من الـ13 منطقة.. وفاز القوميون في جزيرة كورسيكا بالبحر المتوسط محققين نجاحاً تاريخياً غير مسبوق.. وخرج حزب الجبهة الوطنية اليميني المتطرف خاوي الوفاض ولم يفز بأي منطقة رغم حصوله علي رقم قياسي في عدد الأصوات بالدورة الأولي للانتخابات.
وهكذا تحالف اليمين واليسار والقوميون ليقطعوا الطريق ـ ديمقراطياً ـ علي اليمين المتطرف.. ولكنهم ـ رغم ذلك ـ اعترفوا بأن نتائج الانتخابات لا تبعث علي الارتياح أو الشعور بالانتصار.. لأن خطر اليمين المتطرف لايزال قائماً.. ومن ثم يجب ألا ننسي ناقوس الخطر.. أما ماري لوبن زعيمة الجبهة الوطنية فقالت: لا شيء سيتمكن من ايقاف تقدمنا.. وسوف ننتصر علي نظام يحتضر.. وقالت ابنة شقيقتها: "هناك انتصارات يخجل منها المنتصرون".
الصحف الفرنسية أيضا لم تبتهج بهزيمة الجبهة الوطنية لأنها جاءت بعد تكتل الجميع في مواجهة الخطر.. ولذلك فقد اعتبرت نتائج الانتخابات "هزيمة للجميع" أو "انتخابات بلا فائز".. وقالت عناوين هذه الصحف: "مرتاحون.. ولكن" وحذرت صحيفة "لوفيجارو" من أن الجبهة الوطنية لم تختف.. بل علي العكس قويت شوكتها.. ويتحتم علي خصومها أكثر من أي وقت مضي أن يكونوا علي مستوي الثقة التي تجددت فيهم.
أهم ما في هذه القصة ـ أو المعركة ـ أن الفرنسيين كأحزاب وناخبين استطاعوا أن يواجهوا اليمين المتطرف سياسياً وعبر صناديق الاقتراع.. وحلوا مشكلتهم بالديمقراطية.. وهذا درس مهم للشعوب التي مازالت تتخبط في الصراعات المسلحة.. ولا تعرف معني المنافسة السياسية.. ولا تملك غير السلاح بديلاً عن العقل.