التحرير
أحمد شمس الدين
تركيا المؤمنة وروسيا الكافرة واختيارات مصر الصعبة
جاء التوتر السياسي بين موسكو و أنقرة علي خلفية إسقاط تركيا للمقاتلة الروسية بزعم اختراقها مجالها الجوي، ليزيد من سخونة الصراع بين القوى الإقليمية في سوريا، ساحة المعركة التي ستحدد بشكل كبير شكل الشرق الأوسط الجديد بعد الانسحاب الطوعي للولايات المتحدة الأمريكية وتغيير استراتيجيتها نحو المنطقة من الهيمنة الشاملة إلى الهيمنة الجزئية. وقد أثارت هذه الحادثة جدلا كبيرا في وسائل الإعلام العالمية والتي لم يخل معظمها من الانحيازات السياسية. أما محليا، فقد توقفت أمام مشهدين كاشفين للحالة العبثية التي صار عليها ما يسمي بالنخبة المصرية علي اختلافها و تنوعها.

المشهد الأول: لا يجوز دعم روسيا الكافرة ضد تركيا المؤمنة، هكذا أفتى شيخهم وكبيرهم الذي علمهم. فالرجل له تاريخ طويل في تذكيرنا، دون قصد، بالحالة المتدنية التي وصل إليها الخطاب الديني في المحروسة. فتارة يفتي بتحريم تهنئة الأقباط بأعيادهم، وتارة يفتي بعدم جواز حب الزوج المسلم لزوجته المسيحية، وإنما يتزوجها فقط من أجل جسدها، وتارة أخرى يفتي بجواز ترك الزوج زوجته لمغتصبها حفاظًا على نفسه، بالإضافة إلى العديد من الفتاوى المثيرة للسخرية أحيانًا والغضب دائمًا لكل من يغار على هذا البلد وهذا الدين. وبينما كان الجنس حاضرًا بقوة في فتاواه الأشهر، فإنه فيما يبدو قد قرر التغيير هذه المرة فأفتى في السياسة الدولية وانحيازات مصر الإقليمية. ولمَ لا والدين شامل جامع. ولكن لم يتحدث فضيلته عن علمانية تركيا التي طالما حاربها بكل الوسائل التيار المتسلف الذي ينتمي إليه، ولم يشرح لنا كيف اعتبر روسيا كافرة إن كان أغلبية سكانها يدينون بالمسيحية الأرثوذكسية، وحتى إذا اعتبرها المسيحية البروتستانتية، فما الفرق بينها وبين الطوائف المسيحية الأخرى التي تدين بها شعوب دول حلف الناتو الذي تعتبر تركيا أحد أعضائه البارزين؟

المشهد الثاني: مظاهرة نسائية أمام سفارة روسيا في القاهرة، في ذكرى الأربعين لحادث سقوط الطائرة الروسية في سيناء، مطعمة ببعض نقباء مهن وبعض الشخصيات العامة من سياسيين وإعلاميين، بالإضافة إلى ابن زعيم سابق جاء ليستعيد ذكريات الصمود أمام الإمبريالية الأمريكية بالتحالف مع الاتحاد السوفييتي. ومع تصاعد الزخم الثوري، انطلقت الحناجر النسائية لتهتف بكل إصرار وشموخ، "في ذكري الأربعين... كمل كمل يا بوتيييين" و"مصر وروسيا زي زمان... طز طز في أردوغان".

وبين مشهد الكفر والإيمان ومشهد مدرسة كيداهم السياسية، مشهد آخر لم تذعه النخب السياسية للمواطن المصري، وهو ما قد يجيب عن بعض التساؤلات المنطقية للشارع المصري ومنها: لماذا تدخلت روسيا عسكريا في سوريا وأبت أمريكا ومعظم دول حلف الناتو؟ لماذا يقف النظام في تركيا معاديًا للنظام في مصر بدعوى الديمقراطية، بينما يمد يده بكل أريحية لنظم غير ديمقراطية في المنطقة؟ لماذا تبدو سياسة قطر معادية للنظام المصري وحليفة للنظام التركي؟ ولماذا يستميت كلاهما للدفاع عن جماعة الإخوان المسلمين؟ هل حقا تراجعت العلاقات المصرية السعودية مؤخرًا؟

في اعتقادي، فإن تحليل أسباب التوتر الأخير بين تركيا وروسيا كفيل بالإجابة على كل هذه الأسئلة. وقد سردت في ما يلي بعض النقاط أراها أساسية لمحاولة فهم ما يجري في هذه المنطقة من العالم:

١- الجغرافيا: يعتبر مضيقا الدردنيل والبسفور الواقعان في الأراضي التركية واللذان يفصلان بين أوروبا وآسيا السبيل الوحيد أمام السفن والقطع البحرية الروسية للوصول إلى البحر المتوسط من البحر الأسود. ومن هنا كان انفتاح تركيا على الغرب وانضمامها لحلف شمال الأطلنطي سنة ١٩٥٢ بمثابة ثغرة استراتيجية هامة للجانب الروسي، وقد حاولت روسيا استمالة تركيا تارة بالترغيب مستخدمة سلاح الطاقة والتي تعتمد عليها تركيا بشكل كبير. فتركيا تستورد نحو٦٠٪ من استهلاكها للغاز و٣٥٪ من البترول من روسيا، وتارة بالترهيب عندما قدمت الدعم للانفصاليين الأكراد واستخدمت حلفاءها في إيران وسوريا من أجل هذا الغرض، إلا أن جميع محاولاتها قد باءت بالفشل حتى الآن.

٢- النفوذ الغربي في المحيط الإقليمي لروسيا: دائمًا ما تعاملت روسيا بكل حسم مع المحاولات الغربية لتوسيع النفوذ في محيطها الإقليمي، وقد تجلي هذا في الحرب الروسية على جورجيا عام ٢٠٠٨ عندما حاول الرئيس الجورجي، ميخائيل ساكاشفيلي، المدعوم من الغرب الانضمام إلى حلف الناتو واستغلال الدعم الغربي لضم إقليمي أوسيتيا وأبخازيا المتنازع عليهما مع روسيا، إلا أنه فوجئ برد فعل عنيف وتدخل عسكري روسي فيما سمي بحرب الخمسة أيام، الأمر الذي أدى إلى استقلال إقليمي أوسيتيا وأبخازيا عن جورجيا نهائيا بعد أن حصلا على اعتراف ودعم من روسيا. وظهر هذا أيضًا في الأزمة الروسية مع أوكرانيا في أعقاب الثورة الأوكرانية عام ٢٠١٤ عندما اندلعت تظاهرات عنيفة واحتجاجات ضد الرئيس فيكتور يانكوفيتش بعد تعليقه التوقيع على اتفاقية شراكة مع الاتحاد الأوروبي، وقد أسفرت هذه الاحتجاجات عن عزل الرئيس من قبل البرلمان، الأمر الذي أدى إلى تظاهرات مضادة في جنوب البلاد دعمًا للرئيس وللعلاقة مع روسيا. وقد حدث أن تدخلت روسيا عسكريا في شبه جزيرة القرم وساعدت على إجراء استفتاء أدى لانفصال القرم عن أوكرانيا وانضمامها إلى روسيا. ولكن تبقي تركيا بمثابة الثغرة الاستراتيجية الوحيدة للأمن القومي الروسي، خاصة مع تقاربها المتزايد من الغرب، وتمثل تركيا رأس حربة حلف الناتو. لم تخف روسيا استياءها من تركيا بعد أن سمحت للسفن الأمريكية بتقديم الدعم البحري لجورجيا في أثناء الحرب.

٣- الغاز: تعتمد أوروبا على الغاز الروسي بشكل رئيسي، فهو يمثل بين ٣٥٪ و٤٠٪ من إجمالي الاستهلاك الأوروبي، وهو ما كان دائمًا سلاحًا فاعلاً لروسيا في مواجهة النفوذ الغربي. ومن هنا جاءت المحاولات الأوروبية لتنويع مصادر الطاقة والاستقلال عن روسيا ولو نسبيا. وفي هذا الإطار كان مشروع خط الغاز نابوكو الذي وافق علي إنشائه الاتحاد الأوروبي عام ٢٠٠٢ بهدف نقل الغاز من أذربيجان وتركمانستان والعراق إلى تركيا ومنها إلى غرب أوروبا، بحيث يقلل هذا المشروع من استيراد الغاز الروسي. فما كان من روسيا إلا أنها أبرمت اتفاقًا مع تركمانستان في ٢٠٠٨ يقضي بتوريد الغاز إليها بمقابل اقتصادي مرتفع. ومن هنا لم يبقَ أمام منفذي المشروع سوى الغاز الأذربيجاني الذي يأتي معظمه من حقل شاه دنيز والذي كانت الشركة المشغلة له قد باعته إلى خط أنابيب بديل يمر من جورجيا إلى تركيا ومن ثم إلى إيطاليا. ومن هنا كان يجب التفكير في مصدر جديد للغاز ليكون بديلا للغاز الروسي. ومن المعروف أن إيران وقطر تمتلكان أكبر احتياطيات الغاز في العالم مع روسيا. وبما أن إيران حليف استراتيجي لروسيا، فإن قطر هي البديل العملي الوحيد لأوروبا حتى تقلل من الاعتماد على الغاز الروسي.

٤- العقبة السورية في طريق الغاز القطري إلى أوروبا: ومن هنا كان التخطيط لإنشاء أنبوب غاز يمتد من قطر (٨٠٪ من صادراتها الآن من الغاز على هيئة غاز مسال) إلى تركيا عبر السعودية والأردن وسوريا ومنه إلى باقي أوروبا. وكانت سوريا هي العقبة الوحيدة أمام تنفيذ هذا المشروع، حيث رفض بشار الأسد المشاركة في الاتفاق عام ٢٠١٠ لما له من تأثير سلبي على روسيا، حليفه الرئيسي. وفي المقابل وافق بشار الأسد على إنشاء مشروع بديل مع إيران والعراق، سمي بأنبوب الغاز الإسلامي، الذي كان من المفترض أن ينقل الغاز الإيراني إلى أوروبا. وحيث إن إيران والعراق وسوريا (قبل ٢٠١١) في تحالف استراتيجي مع روسيا، فلم يكن هذا المشروع ليفيد خطة أوروبا بالخروج من قبضة الغاز الروسي. ومن هنا تلاقت المصلحة الغربية مع القطرية والتركية. ومن هنا أيضا جاء التقارب القطري والتركي مع جماعة الإخوان المسلمين، التي رآها الطرفان بديلا سنيا لإقامة حكم موالٍ لهم في المنطقة (تذكر معي كيف قامت مصر فجأة بقطع علاقاتها الدبلوماسية مع سوريا خلال حكم الإخوان المسلمين في ٢٠١٢). وقد تلاقت هذه الرغبة مع الرؤية الغربية لإفساح المجال أمام القوى الإسلامية المعتدلة للمنافسة على الحكم من خلال أدوات ديمقراطية تكون بديلا للجماعات الجهادية في إطار استراتيجية جديدة لمواجهة الاٍرهاب بعد أحداث سبتمبر ٢٠١١.

٥- إيران والأمن القومي السعودي: بالنسبة للمملكة العربية السعودية، فإن الحافز من وراء التقارب مع قطر وتركيا (خاصة بعد تولي الملك سلمان حكم البلاد في ٢٠١٤) جاء لاعتبارات استراتيجية وأمنية بحتة، حيث يعتبر صانع القرار السعودي إيران مصدر التهديد الأكبر لأمن الخليج، خاصة بعدما أصبح لإيران نفوذ كبير في عراق ما بعد صدام حسين وبعد أن اتهمتها السعودية بمحاولة إثارة القلاقل داخل مملكة البحرين وعلى حدودها الشرقية، مستغلة تأثيرها على التجمعات الشيعية في هذه المناطق. ثم جاءت أحداث اليمن وانقلاب الحوثيين (الذين ينتمون إلى المذهب الزيدي الذي يصنف كمذهب شيعي وينتمي إلى الاثني عشرية كما هو الحال في إيران) على الحكومة المعترف بها غربيًّا في ٢٠١٤ بمثابة الشرارة التي أشعلت العمليات العسكرية السعودية في اليمن، حيث تحاول السعودية مقاومة ما تعتبره زحفًا شيعيًّا إيرانيًّا من الجنوب. وبناء عليه فإن التقارب السعودي القطري التركي (المدعوم غربيًّا) يراد به مواجهة التحالف الإيراني الروسي علي مناطق النفوذ في الشرق الأوسط. وفي هذا الإطار لم تكن المملكة سعيدة بالاتفاق النووي الذي أبرمته إيران مع الغرب، حيث ترى فيه خطورة تغير موازين القوة في المنطقة ومن هنا قررت الدخول على خط المواجهة مباشرة. وبناء عليه فإن السعودية تري في إقامة نظام سني في سوريا بديلا عن حكم الطائفة العلوية (الموالي لإيران) مصلحة استراتيجية وأمنية مباشرة، وهذه إحدى نقاط الخلاف الرئيسية مع مصر.

اختيارات مصر الصعبة: في هذه الأجواء، يبدو لي صانع القرار المصري كالذي يمشي على الحبل، فأي انحراف بسيط قد يتسبب في سقوطه. فبينما تعتمد مصر على المعونات الاقتصادية الخليجية بشكل أساسي بعد أن عانت من انخفاض النمو وارتفاع البطالة وزيادة عجز الموازنة ونقص موارد النقد الأجنبي على خلفية الاضطرابات السياسية والأمنية في أعقاب ثورة ٢٠١١، إلا أنها في رأيي تبدو ناجحة حتي الآن في الحفاظ علي الاستقلالية "النسبية" لسياستها الخارجية ولو شكليا. فيبدو لي أن مصر لا ترى في إزاحة بشار الأسد عن الحكم في سوريا ضرورة ملحة، وتتحفظ مصر على البديل المتوقع والذي قد يشمل تحالفا بين الجماعات السلفية (التي يمول بعضها خليجيا) والجهادية. وتترقب مصر مدى نجاح التدخل العسكري الروسي في سوريا في إضعاف الجماعات الجهادية قبل أن تعلن موقفها النهائي من الحل. أيضا تتحفظ السعودية على التقارب المصري الروسي مؤخرًا وتعتبره خروجًا عن النص فيما يتعلق باستراتيجية أمن الخليج، بينما يعتبره النظام في مصر ضرورة استراتيجية بعد الموقف الغربي والتركي من إقصاء جماعة الإخوان المسلمين ومن ترتيبات ما بعد ٣٠ يونيو ٢٠١٣. ويشمل الخلاف المصري السعودي قضية حرب اليمن، حيث كانت تأمل السعودية في مشاركة أكبر لمصر في الحرب على الحوثيين، بينما تتحفظ مصر من التقارب السعودي مع الإخوان المسلمين في اليمن وهو ما ترفض مصر أن تقترب منه.

أمام مصر اختيارات صعبة لا بد من حسمها، وتبقى قوة الجبهة الداخلية هي الضمانة الأساسية لعبور هذه المرحلة الحرجة، ولن تقوى الجبهة الداخلية إلا بالعدل والقانون والتعددية والسماح برقابة ذاتية من مؤسسات مستقلة.

والله أعلم.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف