رغم كل التحديات استطعنا أن نكتب الجملة الثالثة فى سطور خارطة الطريق: (البرلمان)، لبدء السير المنتظم فى طريقها الممتد لتأسيس دولة المواطنة، يحدوها الدستور وينظم لحنها الذى يقود عازفيه المايسترو بصبر وأناة وانضباط من موقع القيادة، جوقة البرلمان الذى يطور اللحن ويضبط أداءه بين التشريع والرقابة.
وغير بعيد يأتى الإعلام فى موقع النقد الفنى الذى يتناول المنتج الإبداعى لكل الأطراف، اللحن فى مجمله، وأداء العازفين، وينقل انطباعات جمهور المتلقين، وما يحتاجونه فى تطوير اللحن والأداء، لحساب الوطن لغد أفضل.
وظنى أن دور الإعلام يقفز إلى مقدمة الصفوف فى مرحلة البناء الدقيقة التى تأتى بعد مراحل متناقضة، شهدت تقلبات حادة، فى أنظمة حكم تنقلت بين الرؤى المختلفة من التوجه الاشتراكى المرتبك إلى التوجه الرأسمالى المنفلت إلى القصور الذاتى الذى شاخ على مقاعده ولم يقوَ على مواجهة عواصف الفساد العاتية التى أسست لاقتلاعه والعصف به، لنجد أنفسنا أمام تجمع لإرادات الغضب فى 25 يناير التى تفجرت ولم يستطع النظام الحاكم أن يتعامل معها بما تستحقه من وعى وإدراك لمتغيرات اللحظة فكان سقوطه عظيماً، لندخل فى دوامة الفوضى التى أنتجت دوامات التخريب ودفعت باليمين المتطرف ليحصد مكاسب مكنته من مقاعد السلطة، على خلفية أن الفساد الذى أمسك بدوائر الحكم وامتد إلى تفاصيل يومنا لن يفلح معه إلا من يرفعون لافتة الدين ويبشرون بقيمه، العدالة والحق والتطهر، وعندما أدرك الشعب خديعتهم وتناقضهم، تأتى ثورة 30 يونيو لتعيدنا إلى السياق الوطنى، لكن المقاومة التى تجمع تحت رايتها كل الأنظمة التى خرجت من المشهد لا تسلم بالهزيمة.
أزمة الإعلام أنه كان يتنقل، فى أغلبه، محمولاً على كل ريح تغيير، اشتراكياً فرأسمالياً فقاصراً، ثم تبتلعه دوامة الفوضى، فيفقد بوصلته وتحمله المصادمات، ونجد أنفسنا أمام حالة من الضبابية وغياب الرؤية، وتتراجع المهنية وتترجم فى إصدارات وفضائيات تعمق الفوضى، ووفق معطيات المرحلة، ثورة الاتصالات وتقنيات التواصل، يأتى الإعلام المرئى ليصبح سيد الموقف، وتقفز برامج «التوك شو» لتصبح الأكثر مشاهدة، وفى غياب المؤسسات الحاكمة تصبح هى، فى ظن المتلقى، البديل الحاضر للرقابة ورصد السلبيات وكشفها وطرح الحلول، وتصبح، فى ظن أصحابها، المشرِّع والموجه الذى يفرض رؤيته على الكل، ولم يتوقف الأمر عند هذا التصور بل تطور ليصبح كل برنامج ملكية خاصة للقائمين عليه، ويصبح مقدمه منظراً وموجهاً ينفرد وحده بمساحة البرنامج الممتدة لساعتين أو أكثر يومياً، ومع فوضى ما بعد 25 يناير ينسحب من يملكون رؤية إيجابية ليحل محلهم، فى غالبية البرامج، أنصاف الموهوبين وأنصاف الدارسين، والمهنيين أيضاً، وتنحسر الفقرات التى تأتى بمشاركين من أصحاب الرؤى المختلفة، ليصبح مقدم البرنامج هو المتكلم الأوحد فى برنامجه، وتتحول البرامج إلى ساحة للصراع الذاتى وتصفية الحسابات الضيقة، وتنسحب منظومة القيم التى كانت تحكم الأداء ليحل محلها سيل من الهبوط المهنى والأخلاقى فى انشطار سرطانى يتهدد المجتمع بجملته، ويصبح نجوم الإعلام هم من يتمتعون بقدرة التجاوز عن قيم المجتمع السوى والإعلام المنضبط، ويصبح التهديد بكشف المستور هو لغة هذه البرامج، بل وتتحول إلى ابتزاز فج، والقفز على القضاء الذى ينظر التجاوزات سمة من سمات الأداء الإعلامى الذى يصدر أحكاماً نهائية وباتة، ويرتد بنا إلى عصور التجريس والفضائح.
أما وقد استكملنا خارطة الطريق بتشكيل البرلمان فعلى الإعلام أن يعود إلى دوره فى دولة القانون، محكوماً بضوابطه المهنية، يراقب ويكشف السلبيات ويقدم الحلول ويحرك المجتمع باتجاه البناء ليستحق أن يكون «إعلام الطريق».