حضر اسم سيد قطب بقوة فى التقرير البريطانى (تقرير جنكينز) حول الإخوان. وكانت هناك إشارة واضحة إلى كتاباته التى غذّت الفكر الإرهابى والتجهيلى للمجتمعات المعاصرة، الذى استندت إليه الجماعات التى حملت السلاح فى وجه العالم. جاء فى التقرير: «على الرغم من تصريح الإخوان بمعارضتهم لتنظيم القاعدة، فإنهم لم يشجبوا بشكل مقنع استغلال بعض المنظمات الإرهابية لكتابات سيد قطب، وهو أحد أبرز مفكرى الإخوان».. والمراجع لكتابات سيد قطب يلاحظ بالفعل أنه صاحب براءة اختراع العديد من المصطلحات التى تسكن فى أخاديد تفكير جماعات العنف والتطرف، وتشكل أساساً لتعاطيهم مع المجتمعات التى يعيشون فيها أو يتحركون إليها، مثل الحاكمية، والجاهلية، وجنسية المسلم عقيدته، والجيل القرآنى الفريد، وغيرها. وقد تلقّف «قطب» هذه المصطلحات من كتابات الباكستانى «أبوالأعلى المودودى»، وإن قام بجهد واضح فى وضعها فى سياقات تفكير الجماعات الإسلامية فى مصر، وعلى رأسها جماعة الإخوان.
لست بصدد مناقشة أفكار «قطب»، لكن كل ما أريد أن أشير إليه فى هذه المساحة أن الرجل كان «ابن ظرف وسياق» عاشته مصر خلال العقود الستة التى امتدت من عام 1906 وحتى عام 1966. فقد ازدحمت هذه الفترة بالعديد من الشخصيات الفكرية والأدبية والسياسية التى جمع بين غالبيتها الأصل القروى، حيث وُلدوا ونشأوا وقضوا مرحلة الطفولة وبداية الشباب فى القرية، ثم انتقلوا إلى المدينة فى شبابهم بحثاً عن تحقيق أنفسهم. وقد تفاعلت هذه الشخصيات مع الأحداث التى سادت مصر خلال هذه الفترة وقدمت العديد من الأفكار التى ساهمت فى تشكيل الوعى المصرى، وتحديد مواقف المصريين من العديد من القضايا والأحداث، وما زالت أغلب الأفكار التى أنتجتها هذه الشخصيات تمارس تأثيرها على الواقع المعيش، ومن الوارد أن يمتد تأثيرها إلى المستقبل.
فى هذا السياق ظهرت شخصية «سيد قطب» كحالة خاصة، بل قل شديدة الخصوصية. فقد أنتج أفكاراً عظيمة الخطر ارتبطت بتركيبته الإنسانية الخاصة، وأسلوب تفاعله المختلف مع الأحداث التى عاصرها، بالإضافة إلى تجربته فى السجن خلال الفترة من 1954 إلى 1964، بعد انضمامه إلى جماعة الإخوان، وقد منح إعدامه هذه الأفكار، التى لا تحمل فى جوهرها وجاهة عقلية، حياة بعد إعدامه، وظهرت -ولم تزل- جماعات عديدة أضفت على أفكاره قدراً كبيراً من القداسة، ومضت تترجمها فى الواقع بحمل السلاح ضد السلطة والمجتمع، غافلين عن السياقات الشخصية والإنسانية والتاريخية والظرفية التى أُنتجت فيها.
يخطئ المرء كثيراً عندما يعزل الفكرة عن السياق الذى أنبتها، والكوميديا أن كثيرين وهم يفعلون ذلك يقعون فى نفس المصيدة التى وقع فيها سيد قطب، عندما اقتطع أفكار «المودودى» من سياقها الباكستانى «الجبلى» الباحث عن الاستقلال فى مواجهة «الهندوس» والإنجليز، وحاول أن يعتمد عليها فى قراءة الواقع المصرى «السهل»، وتشكيل التصور الإسلامى للمصريين من منطلق رؤية بيئية مغايرة. ربما اتسقت مفاهيم العنف مع الواقع الجبلى، وربما تناغمت مفاهيم التشدد مع الواقع الصحراوى، لكن الطبيعة السهلة التى حبا الله بها مصر صبغت الإسلام عندما دخل أعتابها، فجعلت إسلامنا سهلاً سمحاً محباً للحياة ومتفاعلاً معها ورافضاً للتطرف والتنطع فى الدين!.