د. نصر محمد عارف
مستقبل مصر يبدأ بإصلاح التعليم (3)
تناولت الحلقان السابقتان خمسة عناصر ضرورية لإحداث إصلاح تعليمى حقيقى فى مصر؛ وهى أهداف العملية التعليمية وغاياتها، وهيكل النظام التعليمى وبنيته، وعناصر العملية التعليمية، ثم ركزت الحلقة الثانية على أحد هذه العناصر، وهو المنهج التعليمى وكيفية تحديثه ليناسب العصر، ثم تناولت جانبا من جوانب المنهج التعليمي، وهو المناهج العلمية وكيفية إصلاحها وتحديثها لتكون قادرة على إعداد إنسان يعيش العصر ويتفاعل معه، وهذه الحلقة الأخيرة تتناول العناصر الثلاثة الأخيرة وهى: سادساً: بناء المناهج الأدبية بحيث تقوم على تعليم القيم وليس حشو الأدمغة بالمعلومات: والمقصود بالمناهج الأدبية هنا هو التربية الدينية إسلامية ومسيحية، واللغة العربية والتاريخ والجغرافيا، والدراسات الإجتماعية، والفلسفة والمنطق، وعلم النفس، والاقتصاد والإجتماع الخ، وعملية بناء هذه المناهج بصورة تقوم على تعليم القيم عملية معقدة جدا، إذ تحتاج إلى عمل شمولى ومبدع فى نفس الوقت، يتم على ثلاثة محاور هى:
1- تحديد منظومة القيم التى يراد بناء المنهج التعليمى حولها، وهذا جهد معقد جدا إذ يحتاج إلى عمليات متراكبة من حصر القيم، وتقويم القيم، وتحديد مصادر هذه القيم، وشرعيتها، وتحديد الأوزان النسبية لهذه القيم، وعلاقاتها البينية، وارتباطات بعضها ببعض، وتأثير بعضها على بعض، وبيان التراكب والتكامل والتصادم بينها، وتحديد نتائج وآثار هذه القيم على المتعلمين فى الزمان والمكان الموجودين فيه، وتحديد علاقات منظومة القيم التى يراد تعليمها بالمنظومات القيمية الموجودة فى العالم الذى سوف يتعامل معه المتعلم فى مستقبل أيامه.
2- كيفية بناء منهج يقوم على تعليم القيم، وهذا يستلزم رسم خريطة العلوم والمعارف التى يتم تعليمها، وتحديد مدى مناسبة القيم لكل مجال أو فرع من هذه العلوم المتعارف عليها، ثم تتم عملية تفكيك داخلى لهذه العلوم والمقررات بحيث لا تظل تُدرَّس كما كانت تُدرَّس سابقا، بل يتم تفكيك كل علم على حدة لإعادة نظمه حول القيم التى يراد تعليمها ضمن منظومات هذا العلم أو ذاك، ثم يتم تفكيك كل قيمة إلى مكوناتها، أو قيمها الفرعية، ويتم ترتيبها تصاعديا، ويتم بعد ذلك توظيف المعارف والمعلومات الموجودة داخل هذا العلم لتخدم تعليم القيمة بصورة تصاعدية من حيث القيم الفرعية ومن حيث المعلومات والمعارف الخادمة.
3- كيفية تقويم القيم، يعتبر تقويم التعليم المبنى على القيم من أصعب أنواع التقويم، وذلك لأنه لا يصلح تقويم القيم بناء على المعلومات أو الأفكار التى استظهرها المتعلم وحفظها، لان هدف القيمة فى جوهرها هو تحويلها إلى سلوك، وما لم تتحول القيمة إلى سلوك لا تعتبر قيمة، وإنما تعتبر معرفة أو معلومة، لذلك فإن تقويم القيم يرتبط بالأنشطة الصفية واللاصفية والمشروعات، والمهارات التى يتعلمها المتعلم ذاتيا. ولكى نصل إلى تحقيق هذا الهدف لابد من تشكيل لجنة عليا من قيادات فكرية ودينية واجتماعية وتربوية، ومن مصريين متخصصين مقيمين فى دول ناجحة تعليميا، تقوم برصد القيم الأساسية التى ينبغى إدماجها فى مناهج التعليم، معتمدة فى ذلك على الوثيقة الضابطة الواردة فى البند أولا. ثم تشكيل لجان فرعية لكل علم من العلوم أو منهج من المناهج تشتمل على تربويين، واساتذة أكاديميين متخصصين فى الموضوع ، وأساتذة أوتربويين من المصريين المقيمين فى دول ناجحة تعليميا. سابعاً: نماذج عملية لفلسفة بناء المناهج الدينية: تعليم التراث أم التعليم بالتراث؟ يعتبر التراث الإسلامى من أكبر الإشكاليات التى تواجه التعليم الدينى فى العالم الإسلامي، حيث تحول تعليم التراث إلى هدف فى ذاته، فأصبح يتم ضخه فى عقول المتعلمين بكل ما فيه من قيم سلبية تفوق كثيراً القيم الإيجابية، لأن ذلك التراث إنما كُتبَ لزمان غير الزمان ومكان غير المكان، وإنسان غير الإنسان. لذلك يقترح أن يتم تعليم القيم من خلال توظيف ما يؤيدها ويدعمها من التراث، ومن ثم يصبح التراث مخزونا معرفيا نستخرج منه ما نحتاج اليه لتحقيق مخرجات عملية تعليمية تبنى إنسانا مسلما قادرا على أن يعيش العصر بقيم الإسلام، بحيث لا يتم تعليم التراث فى أى فرع من فروع العلوم الإسلامية كما هو، وإنما يتم نظمه حول قيم يراد ترسيخها، ومخرجات ينبغى الوصول إليها، بحيث يكون التراث وسيلة وليس غاية فى ذاته، وإنما الغاية هى القيم والمخرج الذى تهدف الدولة للوصول إليه. ثامناً: نماذج عملية لفلسفة بناء المناهج الدينية: التكامل بين العلوم الشرعية والعلوم الاجتماعية والإنسانية. مع تعقد المجتمعات المعاصرة، وتداخل أبعاد حياة الإنسان والمجتمع، لم يعد ممكنا لدارس العلوم الإسلامية أن ينفصل عن التخصصات العلمية الأخرى التى تتعلق بحياة الإنسان والمجتمع، ولم يعد صالحا أن يتكلم خريج العلوم الدينية فى مسائل تتعلق بحياة الناس ومشاكلهم دون أن يحيط بالعلوم التى تتناول هذه الجوانب، فلا يصلح أن يفتى عالم الدين فى القضايا الاقتصادية دون أن يفهم الاقتصاد المعاصر وفلسفته وآليات عمله، لذلك لابد أن تتضمن مناهج التخصصات الدينية جوانب تغطى المتعلق بها من العلوم الاجتماعية والإنسانية، وإلا سوف لا يدرك المتعلمون الواقع بصورة صحيحة، وسوف تكون فتواهم مضللة وضارة بالمجتمع والإنسان، لذلك لابد من تحقيق التكامل بين العلوم الشرعية والعلوم الاجتماعية والإنسانية، بحيث تكون العلوم الشرعية هى الغايات و تكون العلوم الاجتماعية والإنسانية وسائل لتحقيق هذه الغايات. الخلاصة: أن حالة التعليم فى مصر سواء الدينى أو المدنى وصلت إلى درجة خطيرة من التدهور تهدد مستقبل مصر، التى لم تزل تعيش على مخرجات التعليم فى عصور سابقة، فلا يعقل أن يكون عدد التلاميذ فى الفصل أكثر من سبعين تلميذاً؛ بينما المعايير العالمية تضع الحد الأقصى ثلاثين تلميذاً، ولا يعقل أن تكون مدة اليوم المدرسى ساعتين على الأكثر، ولا يعقل..ولا يعقل لذلك فإن إصلاح النظام التعليمى فى مصر مسألة على درجة عالية من الأهمية باعتبارها تعالج أخطر تهديد للأمن القومي، وللمستقبل وللوجود، ومن ثم لابد من التعامل معها على أنها أهم هدف لحماية الأمن القومى بمعناه العميق وبعيد المدي، وإلا لو فشل الإنسان المصري، أو ضاع، أو صار جاهلا، أو متطرفاً، فماذا يبقى من مصر؟ ومن يحمى مصر؟ ومن يحافظ على وجود مصر؟ ومن يقوم بدور مصر؟ وهل ستكون هناك مصر من الأساس؟ لذلك ينبغى أن تكون مسألة إصلاح التعليم تحت إدارة مؤسسة الرئاسة مباشرة، ويكون تنفيذها بصلاحيات، وقوة موقع الرئاسة، وإلا لن يتم شىء فى الواقع، وستتم إعادة إنتاج الفشل كما حدث خلال الاربعين سنة الماضية، وحسبنا الله ونعم الوكيل.