المساء
مؤمن الهباء
شهادة صانعة الأحداث
كلنا نعرف بداية القصة. لكننا لا نعرف متي وكيف ستنتهي.. رغم أننا نعيش الأحداث والتفاصيل يوماً بيوم.. كلنا نعرف كيف بدأت قصة الربيع العربي. مفتشة الشرطة التونسية فريدة حمدي. تجوب أحد الأسواق.. تصادر عربة بائع خضراوات متجول "محمد بوعزيزي".. وتصفعه علي وجهه.. فتؤلمه الإهانة إلي حد يدفعه لإشعال النار في نفسه.. فيشتعل غضب ملايين الشباب العربي في مصر واليمن. وسوريا. وليبيا. والبحرين.. ويتحول الغضب إلي ثورات وصراعات وحروب وقتل ودمار.
تغيرت معالم العالم العربي في أشهر معدودة بهذا الربيع.. ثم تغيرت معالم الربيع نفسه.. واعتبره البعض خريفاً مؤلماً ومتآمراً.. وتغيرت بمرور الوقت قناعات الشباب والشيوخ.. واختلطت مفاهيم كثيرة.. وصارت الحقيقة الواحدة بوجهين: الثورة والإرهاب.. ودخلنا في دوامة واسعة تهز الثوابت وتثير الشكوك في كل شيء وفي كل شخص.
ولكن.. هل كانت الشرطية فريدة حمدي فعلاً "صانعة الأحداث" أم أن النار كانت تحت الرماد.. وكانت حادثتها هي فقط الشرارة التي أشعلت الدنيا؟!!
في أعقاب الحادث مباشرة. اعتقلتها سلطات نظام زين العابدين بن علي بتهمة الاعتداء علي مواطن وإثارة التوتر في المجتمع.. وقدمت إلي محاكمة عاجلة.. وفي الوقت الذي برئت فيه من جميع التهم. وتم إطلاق سراحها. كان بن علي وزوجته وأسرته يهربون بالطائرة خارج تونس.. وتتحول الأحداث بسرعة إلي ثورة شعبية عارمة.. وينطلق الصوت التونسي مبشراً: "بن علي هرب.. بن علي هرب".. وينطلق صوت آخر: "لقد هرمنا".. ويجري البحث عن الثورة التالية.. أين ستكون؟!.. وبالمصادفة كانت في مصر.
في الأسبوع الماضي. أجرت صحيفة "ديلي تليجراف" البريطانية حواراً مع فريدة حمدي. عبَّرت فيه عن ندمها الشديد ـ بصوت مهزوزـ قائلة: أحياناً أتمني لو لم أكن فعلتها.. أشعر بأنني السبب في كل ذلك.. هناك عواقب مؤلمة حلت بالمنطقة العربية خلال 5 أعوام مضت غيرت شكل عدد من الدول العربية.. أحياناً ألوم نفسي علي حدوث كل ذلك.. أنا صنعت التاريخ.. بما أن سلوكي في هذا اليوم أدي لإشعال بوعزيزي النار في نفسه. وشارك في هذا التحول. ومازال التونسيون يعانون كالعادة.. أنا وبوعزيزي كلانا ضحايا.. هو فقد حياته.. وأنا حياتي لم تعد كالسابق.. وعندما أنظر إلي المنطقة وبلادي أندم علي كل هذا.. الموت أصبح في كل مكان.. والتطرف ينتشر ليقتل الأرواح البريئة والجميلة.
بالطبع.. لم تتخيل فريدة حمدي.. ولم يتخيل أحد غيرها.. أن مجرد "صفعة وجه" سوف تترتب عليها كل هذه الوقائع.. صحيح أن المراقبين كانوا يتوقعون انتفاضة من نوع ما في بعض البلدان العربية التي تعاني من الاستبداد السياسي. والفساد. والتردي الاقتصادي.. لكنهم لم يتوقعوا تفاقم الأمور لتصل بالمنطقة العربية كلها إلي ما هي عليه الآن.
هذا ما كان من أمر فريدة حمدي.. أما ما كان من أمر بوعزيزي. فهو ما سيكمل القصة.. فقد نالت أسرته شهرة مؤقتة في خضم الأيام الأولي للثورة.. تحولت بعد ذلك كالعادة إلي عداء دفعهم للابتعاد عن تونس.. فسافرت والدته وأخته إلي كندا. بينما ظلت الأخت الأخري "سامية" تعمل في تونس.. لتؤكد أن موت أخيها استولي عليه الساسة وأصحاب الأيديولوجيات.. ولكنه مات فقط من أجل الكرامة.
هل كانت أسرة بوعزيزي تنتظر مكانة أعلي في تونس الثورة. كنوع من رد الجميل؟!.. ربما.
وأياً كان الأمر فإن قصة فريدة حمدي وبوعزيزي لم تصل بعد إلي النهاية.. مازالت هناك فصول في علم الغيب وتداعيات لا نعرفها.. ومازال الربيع العربي يتلون بلون الفصول حتي يستقر مع "عيش.. حرية.. كرامة إنسانية.. عدالة اجتماعية".
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف