أنور عبد اللطيف
عودة تنظيم أبناء البطة السوداء!
هذه المدينة العريقة صباح الاحد يغط فى نوم عميق بعد ليلة صاخبة فى نهاية الاسبوع لا يشعر بها إلا الذين يعملون أو يدرسون، حيث تتحول الشوارع مساء السبت الى خلية استهلاك نهمة لكل المتع، ويمتد السهر فى الشوارع حتى الثامنة مساء ثم ينحشر جميع الأحبة «اتنين اتنين».. ورباع وسداس داخل المطاعم والحانات والبارات حتى الساعات الاولى بعد منتصف الليل، ثم يهجع الجميع الى مضاجعهم استعداد لليوم التالى فى ترس الاجازة.
حيث يهجر الاهالى شوارع المدينة الى الغابات والحدائق والريف ، ويبتلع الشوارع حتى منتصف النهار صمت كالقبور، إلا حول أماكن السفر ومحطات القطارات وهذا الشاطئ الذى شعرت أنه يلخص أسرار العالم المتقدم، ولأنى لا أعرف لغة العمل ولاثقافة الإجازة ولا قاموس السهر صحيت بدرى وانسحبت أكمل متعتى بالفرجة على ديكتاتورية نهر الدانوب، كان النهار يتثاءب تحت ساتر من الضباب الكثيف الذى يحجب الرؤية ودرجة التجمد قد سمحت بحركة مرتعشة لأطراف أصابعى، وإن كانت السماء قد توقفت عن زخات المطر فقد كانت ظلمتها تنبئ بأنها حبلى كعادتها بالمزيد، ولا أعرف ماذا أتى إلى ذاكرتى بترعة البوهية منذ خمسين سنة التى تقع عليها قريتنا على النيل، هل يكمن وجه الشبه فى الامتداد اللانهائى للمياه والحضور الطاغى للمدقات والشجر أم فى ثقافة البط التى لا تعترف بالعدوانية وحدود الجغرافيا، اثارت المقارنة الآن هواجسى ، بين هوان النيل الذى كان هبة حياة المصريين وقداسة الدانوب الذى تحول من مستنقعات الى هبة الالتزام والنظافة وحرية المرور بين خمس دول بلا سدود، تتحرك مياهه كتلة من الصقيع فى بطء وكسل لكن برودتها تستفز «الاوليمبيين» على تحديها ببرنامج يومى للرياضة مشيا او ترجلا او جرايا بالدراجات، ألقيت جسدى بعد اول نصف ساعة فريسة للبرد على مقعد بشاطئه محلقا خلف ذكريات البوهية التى كانت تندفع معها ابخرة الطاقة والنشاط والدفء القادمة من الجنة الى مستقر لها فى زراعة النماء حول الرياحين والترع والجداول وصارت اليوم سراسيب غريبة تتلوى من بين تلال القمامة والعدوان الوحشى لأصحاب الحظوة والقطط السمان والمبانى، ووضعت كل تركيزى على تسرب من الأوز طار فى حركة رياضية منظمة تلامس بأرجلها صفحة الماء فى خط مستقيم بينما تخلف منهم بالقرب من اقدامى ست أوزات متوسطى الاعمار لا يقل وزن الواحدة عن الاثنين كيلو جرام، سكنت فى هدوء، وتفتح مناقيرها الحمراء او تفرد اجنحتها فى كسل بلا استعداد للسباحة بعيدا عن هذا الحضن الهادئ، شغلتنى حركة دائبة لبطة سوداء بجوارها لا يزيد وزنها على خمسين جراما، كانت تغوص فى مكانها بشكل عمودى وعندما تطل برأسها لا تكاد تلتقط انفاسها حتى تغوص مرة أخرى بنفس الهمة والاصرار على انجاز عمل ما تحت الماء، شدت تركيزى وشغلتنى عن الاسترسال فى المقارنة بين أشكال الحياة والنشاط والتحدى التى يوزعها على شاطئيه نهر شديد البرودة ينبع من باطن جبال الجليد فى المحيط المتجمد الشمالى، وبين حالات الجمود والتطاول والتجاوز والتعدى التى يوزعها على شاطئه نهر كان هادرا شديد التدفق والحيوية والجريان وظل فيضانه الدافئ فى وجداننا علامة رضا الله عن كنانته المحروسة، ذكرتنى البطة السوداء بما قاله لى صديقى الدكتور مصطفى خبير الوراثة إن هناك تشريعا أصدرته ولاية بادن فورتنبرج يجرم صيد البط أو القاء أطعمة له ليظل محتفظا بجينات الاعتماد على نفسه فى تدبير حياته داخل النهر ولا يتخرج جيل بجينات كسولة تدفعه للخروج من الماء بحثاء عن طعام البشر، أجبرتنى همة البطة السوداء على ضبط تايمر الساعة، لحظة تطل برأسها، تحركه بسرعة تنفض قطارات الماء وتنقر بمنقارها نقرتين فى الهواء، وبعد أربع ثوان تغوص لمدة 25 ثانية ثم تطل وتكرر نفس الحركات بالرأس وسن المنقار بشد عضلات الفك بأقصى سرعة واتساع، وتغوص نفس المدة من جديد.
وعندما وصل عقرب الساعة إلى الثانية الرابعة والعشرين كانت الأوزات البيضاء الكسولة قد تحلقت فى شبه دائرة حيث ستظهر البطة السوداء، وفى الدقيقة الخامسة بعد العشرين أطلت البطة السوداء برأسها وبين منقاريها سمكة سالمون كبيرة تتحرك فى إعياء شديد فى محاولة للتملص، لكن البطة السوداء صرخت وظاطت لأول مرة، وغادرت الركن منتشية فى سعادة وفردت جناحيها تمارس رياضة المشى طائرة على صفحة النهر وتركت سمكة السلمون المسكينة يتصارع على تمزيقها ستة خناجر دموية للأوزات البيضاء.