د. محمود خليل
«تُؤْتِى الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ»
يتبنى الكثيرون نظرة قدرية إلى مسألة الحكم. وهى نظرة لها ما يسندها فى التصور الإسلامى العام.
ويعتبر هؤلاء أن «الحكم» مسألة يجرى عليها ما يجرى على غيرها من مسائل الحياة، فكل شىء فى الحياة الدنيا محكوم بقدر الله ومشيئته، يقول الله تعالى: «وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّـهُ»، وقد ترسخ المفهوم القدرى للحكم فى التاريخ الإسلامى بداية من تأسيس الدولة الأموية، وتحديداً على يد الخليفة الثانى لهذه الدولة «يزيد بن معاوية بن أبى سفيان».
ويذكر «ابن كثير» فى كتابه «البداية والنهاية» تصور «يزيد» لفكرة «قدرية الحكم»، التى استند إليها فى تفسير صراعه مع الحسين بن على، صريع كربلاء.
يقول ابن كثير: «وقيل إن يزيد لما رأى رأس الحسين، قال: أتدرون من أين أُتى ابن فاطمة، وما الحامل له على ما فعل، وما الذى أوقعه فيما وقع فيه؟ قالوا: لا. قال: يزعم أن أباه خير من أبى، وأمه فاطمة بنت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، خير من أمى، وجدّه رسول الله صلى الله عليه وسلم، خير من جدى، وأنه خير منى، وأحق بهذا الأمر منى.
فأما قوله أبوه خير من أبى، فقد حاج أبى أباه إلى الله عز وجل، وعلم الناس أيهما حكم له، وأما قوله أمه خير من أمى، فلعمرى إن فاطمة خير من أمى. وأما قوله جده، رسول الله، خير من جدى، فلعمرى ما أحد يؤمن بالله واليوم الآخر يرى أن رسول الله فينا عدلاً ولا نداً، ولكنه إنما أُتى من قلة فقهه. لم يقرأ قوله تعالى: «قُلِ اللَّـهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ.
(الآية)، وقوله تعالى: «وَاللَّـهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ)». كذا قال يزيد، وهو يفسر قول الله تعالى: «تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ»، فنظر إلى مفردة «الملك» كمرادف لمفردة «الحكم»، ليكسب موقفه وجاهة ظاهرية، لكن المعنى الذى استخلصه «يزيد» من الآية يتناقض جملة وتفصيلاً مع المعنى الذى قدمه المفسرون وهم يشرحونها.
تبدأ الآية الكريمة بكلمة: «قل» الموجهة إلى النبى، صلى الله عليه وسلم: «اللهم مالك الملك» أى لك يا الله الملك كله.
وليس المقصود بكلمة «الملك» فى هذه الآية -طبقاً لتفسير ابن كثير- الحكم، أو ولاية الأمر، بل المقصود «النبوة»، التى شاء الله أن تتحول من بنى إسرائيل إلى النبى العربى، وبالتالى فتحديد معنى الملك فى «الحكم» يمثل قفزاً على معنى الآية، لأنه لو كانت مسألة اختيار الحكم بقدر الله ومشيئته، فعلى كل إنسان أن يسلم بها بشكل إيمانى، مثلما يسلم بأقدار الله فى الحياة، وبالتالى لا يصبح من حقه اختيار من يحكمه، أو محاسبته أو مراجعته، ولو كان ذلك كذلك لما خرج رجل بقامة الحسين بن على، الذى رُبّى فى حجر النبوة على «يزيد»، الذى شاء الله أن يكون خليفة على المسلمين.
ربما يكون «الحسين» قد أخطأ فى تقدير الموقف السياسى، وهو يخرج للقتال، لكنه لم يكن يجهل معنى الآية التى فسرها «يزيد» على هواه.