حدثنى صديق عربى عن سعادته بالحيوية التى أصبحت عليها الأحزاب المصرية، وقال أخيرا عادت الحياة للسياسة، فما أقرأه وأشاهده وأسمعه، يؤكد أن بلدكم استعاد عافيته، وأن معارك البرلمان الجديد ستكون حافلة بالرؤى والأفكار.
هذا هو انطباع الكثير ممن تابعوا من الخارج حركة التفاعلات على مستوى التكتلات والتحالفات السياسية داخل مجلس النواب، وتصوروا أن الأسابيع المقبلة ستشهد سخونة، يمكن أن تطوى الصفحة الباردة التى سادت خلال الفترة الماضية، فإصرار بعض الشخصيات على تكوين ائتلافات واسعة، وتصميم بعض الأحزاب على الدخول فيها والخروج منها، يشى بانتقال المعارك السياسية إلى البرلمان، الذى يواجه حزمة كبيرة من التحديات.
لكن انطباع الداخل يبدو مختلفا تماما، فقد نجحت الخلافات والمشاجرات التى طفت على السطح، بسبب الرغبة فى الاستحواذ على الكتلة الحرجة بمجلس النواب، فى اقتناع قطاع كبير من الناس بأن ما جرى وسيجرى صراع على النفوذ، ورغبة عارمة فى تقسيم المغانم، ومحاولة للسيطرة على مفاتيح الحل والعقد فى البرلمان، وهو فى النهاية تأكيد أن المقدمات الخاطئة لابد أن تؤدى إلى نتائج قاتمة.
لا أقصد التقليل من الجهود المخلصة التى بذلتها شخصيات وطنية متعددة، لكن القلة التى تحاول أن تتضخم بالعافية وتريد التحكم فى مجلس النواب، ستدخلنا فى دوامة تؤثر على كفاءة وأداء غالبية النواب، فقد غاب الاستعداد للقيام بالدور المفترض أن يقوم به عضو البرلمان، من مراقبة لعمل السلطة التنفيذية، وإصدار التشريعات، وخدمة المواطنين، وحصر الصراع على رئاسة المجلس ولجانه النوعية وتوجيه السباب، وهو ما كشفته سلسلة المعارك الطاحنة التى دارت بين عدد من القوى السياسية.
ليس من المفيد الدخول فى تفاصيل المسميات المقترحة للائتلافات، ولا حتى من مع من، ومن انسحب، ومن انضم، ومن عاد، ومن راوغ، ومن أعلن ولاءه فى الظاهر وغيره فى الباطن؟ وما إلى ذلك من التفاصيل، التى استمتع بها البعض على سبيل الكوميديا، والغالبية استشعرت القلق على المستقبل، لأن ما جرى بدا لكثيرين وكأنه إحدى مسرحيات العبث.
المهم الدلالات والمعانى التى كشفت عنها التطورات، والتى تؤكد فى معظمها، أن الأدبيات السياسية الحقيقية لا تزال غائبة، وحتى تعود هناك طريق مضن، يتطلب تضحيات كبيرة ممن يمسكون بتلابيب المشهد الحزبي، بصورة رسمية أو من وراء ستار، فليس كل من يتحدث باسم حزب أو ائتلاف الآن يعبر عن قناعته الشخصية أو التزامه السياسي، وقد فضحت العملية الانتخابية وتوابعها، تفاصيل الكثير من الصفقات، وأن ثمة أشخاصا يتفوهون بألسنة غيرهم.
المشكلة أن جزءا كبيرا من الأمراض مستمر منذ فترة طويلة، ولم تلتفت إليها جيدا النخب السياسية، أو تحرص على تفاديها، أو تبدى استعدادا لعلاجها، فالإخفاق الواضح فى أن يكون لدينا حزب كبير وقائد بالمعنى الحقيقى للكلمة، عمق المأزق الراهن، وكل المحاولات الجارية، سواء بالنسبة للتكتلات أو الأحزاب، تريد أن تستنسخ تجربة الحزب الوطنى المنحل، فى إدارة السيمفونية السياسية فى الشارع أو داخل البرلمان، وتريد أن تعيد تكرارها بكل سوءاتها، دون أن تسأل نفسها عن مصيره، حيث تلاشى وذهب أنصاره يبحثون عن مقاعد لهم فى أحزاب أخرى، دون أن يجرؤ من كانوا يتفاخرون به على المطالبة بعودته.
الواقع أن غياب المظلة الجامعة، على قواعد سياسية متينة، وامتدادات شعبية قوية، يقلل من قيمة أى ائتلافات حتى لو حصدت الأغلبية داخل البرلمان، كما أن الأحزاب التى حصلت على عشرات المقاعد، بطرق ملتوية، لن تكون قادرة على الصمود أمام الرأى العام، وأصواتها لن تسمع جيدا خارج أسوار مجلس النواب، فالتكوين المبتسر لمعظمها، والمقيد بحسابات ضيقة سوف يمنعها، وحتى الأحزاب العريقة اسما، أخفقت فى الاقتراب من نبض الناس، وتصورت أن ميراثها وحده سيكون كفيلا بالصفح عن أخطائها ومعاركها السياسية.
الانتماء السياسى الغائب عنها، كفيل بأن يعطل مسيرتها، فلا توجد أفكار أو برامج جامعة، سوى المصالح الشخصية، التى أوقعت كثيرين فى فخ التناقضات، ودفعت بهم إلى القبول بالانضواء تحت لواءات سياسية لا تمثلهم فعليا، الأمر الذى ظهرت تجلياته فى العملية الانتخابية، فكانت بعض التكتلات والأحزاب أدوات فقط لدخول البرلمان، والدليل حالة التفسخ الحالية، حيث يحاول كل فريق «لململة» أشلائه أو أعضائه أو البحث عن أعضاء جدد، وقد وصلت المسألة إلى إغراءات مادية مثيرة للعجب، ودخل سباق الخطف مرحلة مؤسفة، غطت على الصورة الحضارية التى نتمناها للبرلمان المصرى، كأعرق مجالس النواب فى المنطقة.
الواضح أن هناك محاولات من قبل البعض للتغطية على الفقر السياسى فى الشارع، بالقيام بحالة من الصخب والصراخ داخل البرلمان، اعتقادا بأن الضجيج فى الثانى يمكن أن يغطى على الشح الموجود فى الأول، من هذه الزاوية يمكن فهم جانب من المشهد المعقد، الذى جعلنا نتحدث عن تكتلات وائتلافات خيالية، بعيدة عن نبض الجماهير، لكنها توحى للبعض بالحيوية، كما تصور صديقى العربي.
من يكون همهم الزيف والخداع من الصعوبة أن تؤدى مساهماتهم المتواضعة أصلا، إلى إصلاح ما أفسده بعضهم وسابقوهم، فالبانوراما السياسية التى أعلن مشاركتها فى أحد الائتلافات محكوم عليها بالفشل، ليس لفقدان الولاء الحزبى أو الانتماء الأيديولوجي، بل لأن الموزاييك المكونة منه يحمل فى أحشائه معالم ازدواجية لافتة، فهؤلاء مع السلطة الحاكمة وضدها عند اللزوم، ولهم توجهات ليبرالية واشتراكية عند الضرورة، ومنحازون للفقراء ويمكن دهسهم إذا عاقوا مسيرة الطبقة الرأسمالية، ومنهم من يظهر التدثر بطابع مدنى ويتحول إلى عسكرى إذا تطلب الأمر ذلك، وهكذا.
قد يرى البعض فى المعطيات السابقة أهمية، حيث تؤكد أن البرلمان سيصبح مستأنسا، وأن سباق غالبية أعضائه للالتصاق بالسلطة الحالية يحمى الطرفين من المضايقات، لكن هناك من يعتقد أن فقدان الحد الأدنى للمعارضة الوطنية، يمكن أن يتسبب فى مشكلات سياسية، تعوق التطور الذى نتمناه لهذا البلد، فقليل من الاختلاف قد يصلح الكثير من الأمور.