الأهرام
يحيى الجمل
واحسرتاه على ليبيا
ليبيا التى أقصدها ليست هى ليبيا أيامنا هذه التى تعبث فيها غربان داعش خرابا وفسادا فى الأرض . ليست هى ليبيا الفوضى والاقتتال التى لا يستطيع المجتمع الدولى أن يتفق الآن على كلمة سواء لإنقاذها مما هى فيه من دمار وتشرذم وغياب كامل لمعنى الدولة . ليبيا التى أقصدها هى ليبيا التى ذهبت إليها عندما كانت بلدا فيدراليا يتكون من ولايات ثلاث وكان يحكمها الملك «محمد إدريس السنوسي» وكانت تتمتع بدستور ليبرالى يحاكى دستور 1923 عندنا .
فى العقد الخامس أو بداية العقد السادس من القرن الماضى كانت ليبيا بصدد إنشاء قضاء حديث وطلبت من مصر أن تمدها بثلاثة من أعضاء النيابة العامة ليكونوا رؤساء للنيابة فى ولايات ليبيا الثلاث.

بالفعل أوفدت مصر إلى ليبيا ثلاثة من أعضاء النيابة العامة ذهب الزميل الأكبر إلى ولاية طرابلس وذهب الزميل الذى يليه فى الأقدمية إلى ولاية بنغازى وذهبت أنا إلى ولاية فزان فى قلب الصحراء الليبية. كانت فيها بقايا قاعدة فرنسية وكانت تربطها بالعالم الخارجى طائرة واحدة تأتى من طرابلس مرة كل أسبوعين ثم أصبحت مرة واحدة كل أسبوع. وعندما تغادر الطائرة فزان عائدة إلى حيث جاءت كان الإحساس العام بأننا انقطعنا عن العالم.

على أى حال، كان قرار تعيينى رئيساً لنيابة ولاية فزان لابد من أن تصدر به موافقة من مجلس القضاء الأعلي. ثم يصدر بتعيينى مرسوم ملكى ثم كان يجب قبل أن أباشر عملى أن أؤدى اليمين القانونية أمام الملك نفسه. وانتظرت كشاب لم أكن قد بلغت الخامسة والعشرين من العمر اتمام هذه الإجراءات . ولم أكن متعجلاً ذلك أن اتمام هذه الإجراءات كان يعنى أن أعود إلى فزان . وما أدراك ما فزان . قحل وجدب فى كل شىء! وأنا الآن فى طرابلس وفى فندق «المهارى» حيث الحياة حافلة ومثيرة. أو هكذا بدت لى آنذاك. وكان أكثر ما فى هذه الحياة من متعة وإثارة هى تلك الأمسيات التى كنت أقضيها فى ركن من أركان «المهارى» أتحدث مع هذه المجموعة أو تلك من المجموعات الكثيرة التى تنزل بذلك الفندق الظريف .

وسافرت من طرابلس إلى بنغازى بالطائرة وكان واضحاً أن مدينة بنغازى أكثر صلة بالعروبة من مدينة طرابلس على أنى لم أمض فى بنغازى غير بضع ساعات ، ثم استأنفت الرحلة مع رئيس المجلس فى سيارة «لاند روفر» كان يقودها رئيس المجلس بنفسه . ووصلنا إلى طبرق مع اقتراب المساء. وقضيت الليلة وخاطر مقابلة الملك يلح عليّ . كيف سيكون ذلك اللقاء ؟ وكيف سيتصرف الملك معى ؟! وكيف سأتصرف أمام الملك؟! وماذا يمكن أن أقوله فى حضرة الملك إن أتيح لى الكلام ؟! وكنت أنام نوماً متقطعاً. لا أكاد أغفو حتى أفيق. وقمت عند الفجر وتوضأت وصليت وسألت الله التوفيق. وبعد أن تناولت إفطارى خرجت مع «سيف النصر» فى سيارته وطفنا بمدينة طبرق ولم يستغرق ذلك وقتاً طويلاً ثم اتجهنا بعد ذلك إلى القصر الملكى.

ودخلت القصر هيّاباً وجلاً.. وقادنى أحد الموظفين إلى مكان للانتظار. وهناك تركت «سيف النصر» رئيس المجلس التنفيذى ووزير العدل بالنيابة لكى أقابل الملك قبل حلف اليمين ولم يمض وقت طويل حتى جاءنى الموظف نفسه فى القصر الملكى لكى يصحبنى إلى مكتب الملك . كانت حجرة المكتب صغيرة بسيطة ليس بها أى مظهر من مظاهر الأبهة أو الفخامة . وكان الملك يجلس على أريكة إلى جوار المكتب وكان هناك بعض المقاعد البسيطة والمريحة والقليلة العدد أيضاً..

ودخلت مسلماً فقام الملك وسلم عليّ ثم دعانى إلى الجلوس على أحد المقاعد وأخذ يردد معى نفس التحيات التى يرددها الليبيون العاديون وسألنى عن رحلتى وتمنى أنها لم تكن مرهقة لى . ثم سألنى عن أحوال مصر مبدياً أنه قضى بها وقتاً طويلاً مكرماً معززاً عندما كان فى فترة الهجرة زمن الاحتلال الايطالى . وبعد ذلك شجعنى بكلمات طيبة لكى أتحمل المسئولية فى «فزان» ثم دعانى لحلف اليمين . وقمت وتلوت اليمين من ورقة كانت معى وصوتى يكاد يحتبس وكنت أتلجلج ثم أنطلق خفيضاً بطيئاً.

وبعد أن انتهت المراسم سلم عليّ الملك ودعا لى بالتوفيق. وغادرت القصر الملكى فى طبرق التى كانت قريبة جدا من الحدود المصرية وغامرنى الخاطر أن أذهب إلى منفذ السلوم و منه إلى القاهرة. على كل حال إنها الحياة بكل تقلباتها ومراحلها.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف