المساء
محمد جبريل
ع البحري مصر التي ننتمي إليها
الأغنية التي تقول: يا عزيز عيني وأنا بدي أروح بلدي.. بلدي يابلدي والغربة أخدت ولدي.. تلك الأغنية كانت تعني الشاب المصري الذي تأخذه قوات الاحتلال البريطاني - أعوام الحرب العالمية الأولي - إلي سيناء. ليحارب ضد قوات الأتراك. وكلاهما - البريطانيون والأتراك - مستعمر.
وكان الحرص علي الفرار من الجندية - كما أشرنا - يصل إلي حد تشويه الجسد كقطع الأصبع. أو فقء العين. هو تصرف الشاب المصري إلي مطالع الخمسينيات. لاعتبارات عدة. من بينها: نظام "البدلية" الذي كان يقصر الالتحاق بالجيش علي أبناء الفقراء. فيعانون التصور أنهم يحاربون دفاعا عن الآخرين.. ونظام المراسلة الذي كان وضع الجندي فيه أقرب إلي وضع الخادم.. وثالث الأسباب أن الجندي المصري كان يحارب في مناطق ليست من وطنه. ودفاعا عن قضايا لم تكن تعنيه علي أي نحو. ومن ذكريات جمال عبدالناصر في حرب فلسطين أنه التقي بجندي هارب من ميدان القتال. وسأله عبدالناصر: لماذا تفر من المعركة؟.. قال الجندي في خوف وبساطة: أنا هنا لا أحارب دفاعا عن وطني!.. فلما تأكدت أشياء. من بينها تساوي انضمام الشبان إلي القوات المسلحة واحتوائها آلاف الخبرات الجامعية والمهنية والحرفية. وتحول القوات المسلحة إلي إلي مؤسسة عسكرية متكاملة. ثم تنامي الوعي القومي في مصر. وأن الدفاع عن فلسطين. أو أي قطر عربي. إنما هو دفاع عن مصر التي تنتمي إلي هذا الوطن.. لما تأكد ذلك - وغيره - فقدت الأغنية الشهيرة دلالاتها. وبذل الشباب حياتهم دفاعا عن سيناء وفلسطين وأقطار عربية أخري. لأن الدافع - وهو الانتماء - كان في نفوسهم واضحا ومحركا.
المثل الأعلي سبيل مهم إلي الانتماء. والظاهرة الاجتماعية الواضحة. ان المجتمع الذي يبرز موهوبين في مجال ما. يبرز بالتالي تلاميذ في نفس مجال الموهبة. ويتحول هذا العشق. أو الموهبة. إلي خاصية في تكوين المواطن عموما. والبرازيل التي أنجبت بيليه وجارينشيا وزيكو. هي البرازيل التي يملأ ملاعبها عشرات المواهب في كرة القدم. والعقلية العلمية التي يتسم بها الشعب الألماني. أصبحت تعبيرا عن الحياة الألمانية. والدأب وحب العمل والابتكار صفة لمجموع الشعب الياباني.
المثل الأعلي إذن هو ما يبحث عن الشباب في طريق الانتماء إلي الوطن. والمثل - غالبا - يتحدد في الشخصيات البارزة في مجالات الحياة المختلفة. بدءا بالزعيم السياسي. وإنتهاء بلاعب الكرة. مرورا بالباحث والطبيب والأستاذ الجامعي والأديب والشاعر والفنان التشكيلي والممثل الخ...
المثل الأعلي الذي ينتظره الشباب - في هذا الزمن - يجب أن تتوافر فيه خصائص. هي التي يحتاج إليها الشباب فعلا: الانتصار علي عوامل السلبية والإحباط والتشاؤم. والبعد عن المغريات. وقياس جهد الإنسان بما يضيف إلي مجتمعه. لا بما يستلبه من هذا المجتمع. الخ....
هذا هو المثل الأعلي كما ينبغي أن تكون صورته. وقد عاني تاريخنا - المعاصر تحديدا - من تشويه متعمد. أساء إلي قيم ورجال. فغاب الهدف النبيل عن غالبية الذين خرجوا في اتجاه هذا الهدف. بينما يغيب المثل تماما في النماذج الهشة والمتكالبة.
أخيرا. فإن الشعور بالانتماء لن يتحقق إلا إذا تواءم الشعار مع التطبيق في حياتنا. يتوافر المثل والقدوة. يشعر المواطن بأن ما يجري عليه يجري علي غيره. المثل يقول: المساواة في الظلم عدل. فما بالنا بالمساواة في العدل؟
الأهم أن يشعر المصري أن مصر هي مصره. بلاده التي ينتمي إليها. وأن الآخرين ينتمون إليها. وينتمون إليه. يشعر بأن الذي يتعامل معه هو مواطن مثله. وأن تعود تلك المشاعر القديمة التي كادت تضيع: التكافل والمشاركة والإحساس بالآخرين.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف