الوطن
أمينة خيرى
المصريون ملوا «دوَّخينى يا لمونة»
لعبة «دوَّخينى يا لمونة» قد تُجدى بعض الوقت فى زمن ما لتحقيق أهداف ما، لكنها سرعان ما تتبخر فى هواء الواقع. والضلوع فى دهاليز أيهما جاء إلى العالم قبل الآخر: البيضة أم الدجاجة؟ قد يملأ فراغ الوقت ويستحوذ على جل التفكير ليوم أو يومين أو سنة أو سنتين، لكن المشكلة الأصلية ستبقى وتتوغل سواء كانت البيضة هى من وصلت أولاً أو سبقتها الست الوالدة. وفى خضم تناحر إلكترونى، الجانب الأكبر منه مفتعل، والجانب الأصغر منفعل، يوجد واقع حياتى بعيد كل البعد عن أثير العنكبوت، فبين مطالبين للرئيس السيسى بالرحيل بهاشتاج «ارحل يا سيسى» وهو من عينة «رابعة رمز الصمود» و«مرسى رئيسى» من جهة، ومدافعين ورافضين ومحبين بهاشتاج «الشعب بيحبك يا سيسى» وهو ما يحوى أطرافاً متناقضة عدة، ويعكس «فيس بوك» و«تويتر» الكثير مما يدور فى كواليس قطاع من المصريين من مستخدمى الإنترنت. فهناك من المصريين محبون للرئيس أو مقتنعون بأدائه أو مؤمنون بخطواته أو مؤيدون لتحركاته أو خائفون من سواه أو منهكون مما جرى على مدى سنوات خمس قاسية، وقبلها عقود طويلة من التغييب والفساد والتجهيل. وهناك أيضاً بين المصريين من يطالبون بالتغيير بغض النظر عن الثمن، ومن أدمنوا «التحرير» حيث معاقرة الزخم الثورى وعدم القدرة على مفارقة أدرينالين الميدان، دون قدرة واضحة على تقييم الواقع وقياس ما يجرى حولهم. وهناك بالطبع قواعد الجماعة ومتعاطفوها ومحبوها ممن يؤمنون بحتمية عودة الدكتور محمد مرسى أو أى من أعضاء مكتب الإرشاد لإعادة الفرصة التاريخية المجهضة. وحيث إن ساعتنا السكانية كسرت حاجز الـ90 مليوناً، فإنه من الصعب الحكم على ما يجول فى بال المصريين من خلال أثير العنكبوت وحده. كما أن قياس نسب من ينتمون إلى هذا التوجه أو ذاك عبر عداد «تويتر» أو تعليقات «فيس بوك» أمر أقرب إلى السفه. وهناك من النخب من تعتمد فى قياس التوجهات ومعرفة الانتماءات على مراكز بحثية ودراسات سياسية أو تحليلات صحفية غربية. خذ عندك مثلاً مركز «كارنيجى» ونشاطه المفعم هذه الآونة، حيث صفحة مصر لا تحوى إلا عناوين من نوعية «عودة جماعات مصالح مصر العسكرية»، والحديث المطول عن سيطرة الجيش على الاقتصاد والتوغل فى الحياة المدنية.. إلخ، وفى نهاية المقال ورغم أنه يخلص إلى أنه من الصعب التنبؤ بآثار هذا التدخل على الاقتصاد المصرى وقدرته على النهوض أو السقوط به، فإنه يؤكد أن النتيجة بالتأكيد سيئة! هذا بالإضافة إلى ما لذَّ وطاب من بكاء على «السلفية السلمية» التى تتعرض للإقصاء، ومصر التى تبدو فى نهاية 2015 قريبة الشبه بمصر فى عام 2010، وما يحمله ذلك من تمنيات بهبة «ربيعية» جديدة! ومن «كارنيجى» إلى «بروكينجز» حيث «قمع الدولة والدور الأمريكى فى مصر السيسى» و«نظام السيسى هدية لتنظيم الدولة»، وغيرها من العناوين التى تدور فى فلكها دوائر تبدو متباعدة، لكنها فعلياً شديدة التشابك والتقارب والتداخل، والتى تروج لفكرة أن الإطاحة بالإسلام الوسطى «الجميل السلمى» فى مصر يفتح الباب أمام تنظيمات مثل «داعش» وأخواته، وهو ما يردده طرفا نقيض، لكنهما أقرب ما يكونان إلى الطرف الواحد! وعودة إلى مصر، وما يدور فى كواليسها العنكبوتية، وهى الكواليس التى أحياناً تفرض أو تقدم نفسها على أمل أن تكون واجهة مصر الشعبية أمام الرأى العام أو دوائر صنع القرار أو الإعلام فى الخارج. لكن الداخل مختلف حيث ملايين المصريين الذين لم يسمعوا عن «بروكينجز» ولم يقرأوا شيئاً مما نشره «كارنيجى» ولا يهتمون كثيراً بهوية من يكتب هنا أو انتماء من يبحث هناك، وتعقد وتشابك الباحث الفلانى من أصل مصرى، وصاحب الرأى المسموع فى دوائر واشنطن والمدافع دفاعاً شرساً عن الإسلام السياسى الوسطى، ممثلاً فى «الجماعة»، ولا فى أصل وفصل تمويل هذه المؤسسة أو كيان ذلك المركز. هذا الداخل هو رمانة الميزان فى مصر حالياً، وهو لا يملك غير ذكاء فطرى وانغماس فى مشكلات آنية وإيمان بغد أفضل، لتكون العوامل الرئيسية لتوجيهه وتكوين رأيه وتشكيل مواقفه. هذا الداخل لم يعد يقنع بمبدأ «دوَّخينى يا لمونة»، وجميعنا صادف عبارات مثل: «مش عايزين مجلس شعب» أو «يا ريت بتوع السياسة يبعدوا عننا» وغيرهما مما يعكس رغبة ملحة فى إنهاء أو الخروج أو إقصاء المشهد السياسى العبثى الدائرة رحاه، بالإضافة إلى معرفة شعبية يقينية بأن هؤلاء المتناحرين المتحاربين الكيادين المعايرين المتنابزين المتحالفين تارة والمنقلبين على بعضهم البعض ألف تارة، لن يحسنوا وضع المرور أو ينهوا كارثة البناء على الأراضى الزراعية أو ينسفوا نظام التعليم البائس اليائس، لأن أجنداتهم متخمة بمصالح أخرى، كما أن قطاعات عريضة من الشعب ملت وتعبت وكرهت جدليات البيضة والفرخة العقيمة. البرلمان جاء ليشرع، البرلمان جاء ليلغى ما تم تشريعه من قبل، هناك أجنحة متصارعة فى الدولة، هناك جهات تعمل ضد الرئيس، هناك جهات تدعم الرئيس سراً، ذكرى «يناير» ستشعل ثورة جديدة، ستمر مرور الكرام، ستعيد الثوار إلى الميدان، الثورة كانت مؤامرة، الثورة كانت حقيقية، الجيش انقلب على الإخوان، الإخوان انقلبوا على المصريين، المصريون انقلبوا على الإخوان، مواقف وتوجهات وأقاويل وإشاعات شغلت المصريين من قبل، لكنها فقدت مفعولها، ملَّ المصريون من هذا وذاك وهؤلاء وأولئك، المصريون ملوا الجميع، ويودون لو توقف الكل عن أوركسترا البكاء على اللبن المسكوب ومعزوفة «دوَّخينى يا لمونة» وجدلية «البيضة أم الدجاجة؟»، فهل من مغيث؟
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف