الوفد
د. مصطفى محمود
الملف الأسود للعلاقات الفرنسية السورية
رغم إنه «إذا عُرف السبب بطل العجب، و لكن للأسف إذا عُرف الداء فلن يسهل الدواء» وخاصة فى القضية السورية؛ وهذا ما طرحه الصحفيان الفرنسيان كريستيان شينو وجورج مالبرونو بوضوح فى كتابهما الجديد «دروب دمشق، الملف الأسود للعلاقات الفرنسية - السورية» معللين هذه الحملة المسعورة التى قامت بها فرنسا ضد سوريا والتى فجرها ثلاث قضايا الأولى الحرب العراقية وعدم رغبة فرنسا فى الوقوف ضد أمريكا، ثم الغاز السورى الذى لم تنل منه الشركات الفرنسية شيئا وذهب الى الشركات الكندية والبريطانية. وكان اغتيال الحريرى المسمار الاخير فى نعش تلك العلاقة.
والكتاب تناول 40 سنة من العلاقات الملتبسة بين البلدين، وفضح كواليس ما يحدث من خلال مشاهداتهما وملفات سرية حصلا عليها ليرصدا العلاقة الهشة بين الدبلوماسيين الفرنسيين وأجهزة الاستخبارات والصراع بين جهازي «الاستخبارات الداخلية» و«الاستخبارات الخارجية» حول سوريا. فالنفور بين الجهازين قام مع بداية الأزمة السورية واستمر حتى بعد انتقال الجهازين إلى عمان. والغريب أن تقارير الطرفين كانت متناقضة عام 2011. وكليهما كان مقتنع بأن الأسد لن يسقط سريعاً، ولكن الاستخبارات الداخلية لاحظت بسرعة دور السلفيين والجهاديين في التمرد، بينما استمر الجهاز الخارجي بإرسال تقارير ضد نظام الأسد. وللاسف أن سوريا تعد نموذجا لسوء التعامل بين الديبلوماسيين والمخابرات في إدارة الأزمات.
والعجيب أن الإدارة الفرنسية ومخابراتها باعتا للعالم فكرة سقوط النظام السوري مثل نظام بن علي، ومعمر القذافي وحسني مبارك، وتناسى هؤلاء ان سوريا بلد مختلف، وأن هناك من يقف مع الأسد!.. ورغم أن سوريا رسمت حدودها فرنسا ودربت كوادره على جميع الاصعدة، وتعاونت معها على تطوير الأسلحة الكيميائية في السبعينيات والثمانينيات، ألا أن هذا لم يكن شفيعا للنظام السورى .و الكتاب يفسر أن الخلاف بدأ عام ١٩٨١ مع اغتيال السفير الفرنسي في لبنان لوي دو لامار، وهو ما شكل صدمة لفرنسا وخارجيتها، وكان اول جثة في علاقة الطرفين لمعاقبة الفرنسيين على علاقتهم مع عرفات. وعام ١٩٨٤ زار الرئيس الفرنسي فرنسوا ميتران الرئيس السوري حافظ الأسد، واتفقا على عدم ممارسة العنف، وكانت الزيارة الأولى لرئيس دولة فرنسي لسوريا، وبعده چاك شيراك الذي انتخب عام ١٩٩٥ رئيساً، وأراد التعاون وليس المواجهة لتخفيف الممانعة لعملية السلام. أراد ان يجعل العلاقات السورية طبيعية مع أهل المنطقة.
وبعد موت حافظ الأسد تابع مع ابنه «بشار». ولكن فى عام ٢٠٠٣ بدأ الطلاق الفعلي بعد حرب العراق، لأن الفرنسيين لم يريدوا ان يكونوا دائماً في مواجهة الأمريكيين، وضياع أمل «شيراك» في ان يحصل على حصة من حقول الغاز السورية، ثم اغتيال رفيق الحريري الذي كان «شيراك» يرى المنطقة من خلاله، خاصة أن سوريا بعد أتفاق الطائف سلمت لبنان الى أربعة أشخاص: عبدالحليم خدام، وحكمت شهابي وغازي كنعان ورفيق الحريري، بحسب اتفاق مع السعودية، قتل منهما اثنان، واثنان هاجرا.. وقد كانت هناك رغبة لدى «شيراك» في معرفة قاتل الحريري، لذلك أعيد تمثيل الانفجار في فرنسا في منطقة اللاند كابسيو. ولأن المصالح تتصالح لذلك فإن اغتيال الحريري لم يمنع استمرار العلاقات والمصالح الخاصة الفرنسية - السورية، وعلى الرغم من القطيعة السياسية تابعت فرنسا تعاون المصالح من تحت الطاولة، إذ باعت بعد ٥ أشهر من اغتيال الحريري طائرتي هيليكوبتر لبشار الأسد للرئاسة، وباعت شركة الاتصالات الفرنسية «الكاتيل» شبكة تواصل آمنة لـ١٤ زعيما سياسيا سوريا.
وكانت سياسة الرئيس نيكولا ساركوزي عكس سياسة «شيراك»، فأعاد التواصل مع بشار من خلال قطر، ثم اعاد وجود الرئيس السوري الى الخريطة السياسية الفرنسية، ودعاه لزيارة الإليزيه، ولكن لسوء التقدير عندما بدأت الثورة عام ٢٠١١، وبدل ان يتعاون الفرنسيون مع الروس اعتبروا ان سوريا ستسقط من دون ان يعرفوا ان لسوريا نظاما مختلفا لديه خصائص اقتصادية ومجتمعية، والشعب ليس كله ضد بشار. وهذا ما أكده السفير الفرنسي ايريك شوفالييه من ان النظام لن يسقط، وكذلك المخابرات، لكن الإليزيه لم يستمع الى كل هذه الأصوات، وحاولت «فرنسا» محو ذاكرة الصداقة الجيّدة بينها وبين النظام السوري، وغطت الطرف عن المعلومات التي يرسلها السفير الفرنسي في «دمشق» وكانت ترفضها وزارة الخارجيّة الفرنسية لأنهم يريدون صورة فيها الكثير من التضليل وتشويه المعلومات،ونقل صورة مغايرة لحقيقة ما يجري في «سوريا».
ولقد خاب ظن «نيكولا ساركوزي» حيال «بشار الأسد» لأنه كان لديهم بعض المشاريع الاقتصاديّة، منها مترو «دمشق» ومطار «دمشق»، وهذه الاتّفاقات كلّها لم تُوقّع مع «فرنسا ..والجميع يعلم أن «فرنسا» رغم أنها أسست النخبة السورية ولكنها لم تقف معها وباعتها!. وفي تلك الفترة في ربيع 2011 كان الحليف لـ «فرنسا» هو «قطر»، الى جانب «الإخوان المسلمين» في «مصر»، و «الإخوان المسلمين» في «تونس» الذين بدوا على أنهم البديل، الوحيد الهيكلي المهيأ سياسياً، وكان دور «قطر» مهمّ جداً في تلك الفترة لإقناع الفرنسيين والأوروبيين أيضاً والأمريكيين بأهمية استخدام الإخوان المسلمين كبديل لأنهم سيصبحون مسلمين ديمقراطيين، ومن هنا كان التحالف مع المعارضة لإسقاط نظام الأسد، ضاربة فرنسا بعرض الحائط بكل المعلومات الاستخباراتية، والعلاقات السابقة، وأصبح ضيف الإليزيه بالأمس عدو اليوم! وتلك هى السياسة.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف