ما إن برز الوجه القبلى والانحيازات العصبية من جديد على ساحة الإسلام والمسلمين حتى أشهرت السيوف، وظهرت فكرة الذبح كأداة للتعامل مع المخالفين فى الرأى، وامتد الأمر إلى المختلفين فى العقيدة، فبدلاً من أن تستخدم السيوف فى الدفاع عن الإسلام والمسلمين، أصبحت توظف فى أحوال من أجل قهر الغير، وإذا هانت رقبة ابن العقيدة نفسها والثقافة الواحدة وباتت مباحة على النحر، فإن رقاب الأغيار تكون أهون. عندما اجتمع المسلمون فى سقيفة بنى ساعدة لاختيار خليفة لهم بعد وفاة النبى صلى الله عليه وسلم، كادت السيوف أن تقفز من أغمادها لحسم الخلاف، لولا أن تدارك الأمر كبار الصحابة، أو قل إن الأمر كان محسوماً، لأسباب متعددة، لأبى بكر الصديق، أبرزها حسم المسألة على المستوى القبلى لصالح «قريش»، ولم يكن الظرف مهيّأ حينذاك لظهور النعرات العائلية، وقد سهلت هذه الأسباب بعد ذلك عملية نقل السلطة إلى عمر بن الخطاب، لكن جرثومة «التعصب العائلى» بدأت تنشط بعد وصول الأمر إلى عثمان بن عفان (المنتمى إلى العائلة الأموية)، ومن بعده إلى على بن أبى طالب (المنتمى إلى العائلة الهاشمية)، حين أشهرت السيوف بشكل صريح فى موقعة صفين بين على ومعاوية. وعندما استقر الأمر لـ«معاوية» لم يعد السيف مجرد أداة للصراع على الحكم والوصول إليه، بل أصبح أداة للتوريث، خلافاً لما تصالحت عليه الأمة طيلة عهد الراشدين الأربعة.
يكاد يكون بنو أمية هم أول من أصَّل لثقافة ذبح المعارضين فى الرأى على مستوى الحكم، ويكاد يكون الخوارج أول من أصَّل لهذه الثقافة على مستوى المعارضة. أراد «معاوية» أن يورث الحكم لابنه «يزيد» على غير رغبة الكثير من أبناء كبار الصحابة، وفى مجلس حكمه قيلت تلك العبارات الفارقة التى أسست لـ«الذبح». يحكى ابن كثير فى «البداية والنهاية» أن يزيد بن المقنع قام فى مجلس ضم معاوية وكبار رجاله لبحث مسألة توريث الحكم فقال: «هذا أمير المؤمنين، وأشار إلى معاوية، فإن هلك فهذا، وأشار إلى يزيد، ومن أبى فهذا، وأشار إلى سيفه. فقال معاوية: اجلس فأنت سيد الخطباء». طبعاً سيد الخطباء، ومن رَحِم هذه العبارة خرجت مأساة «سيد الشهداء الحسين بن على»، فكان من أوائل من مورست عليهم عقيدة الذبح التى كرستها الثقافة العربية، ليعيد إلى الذاكرة من جديد قصة جده محمد صلى الله عليه وسلم الذى كاد أن يموت أبوه ذبحاً وفاءً لنذر عبدالمطلب.
منذ مأساة كربلاء أصبح قطع رقاب البشر المخالفين قانوناً من القوانين التى تحكم الدولة العربية، وبقدر ما كانت تبتعد الأجيال المتأخرة عن قيم الإسلام بقدر ما كانت تقترب من قيم الثقافة العربية التى حاربها النبى. ظلت الرؤوس تطير عند الانتقال من خليفة إلى آخر طيلة حكم الدولة الأموية. ثم نشأت الدولة العباسية على يد «أبوالعباس السفاح» -فكر قليلاً فى لقب السفاح!- الذى أمطر الأرض بدماء مخالفيه وقطع رقاب معارضيه، ولم يستثنِ منهم بعض من ساعدوه فى الوصول إلى السلطة، مثل «أبومسلم الخراسانى». خطب أبوالعباس يوماً فى أهل الكوفة فقدم لهم نفسه قائلاً: «أنا السفاح الهائج والثائر المبير»!
هل للسفاح وظيفة أخرى غير سفح الدماء ونحر الرقاب؟!