أحمد عبد التواب
ماذا ننتظر بعد أن عملت الفتيات فى البلطجة؟!
لم يعد من الممكن السكوت أو التهاون مع تفاقم ظاهرة البلطجة وبعد أن اتسع مداها إلى حدود الخطر بمشارَكة الفتيات فى العمليات الإجرامية واستخدامهن السلاح الأبيض واعتدائهن بقلوب ميتة على ضحاياهن دون اكتراث بإحداث عاهة مستديمة، وبعد أن صار التهديد لعموم المواطنين الآمنين، أو المفتَرَض أنهم آمنون، وهم يسيرون فى حياتهم المفتَرَض أنها طبيعية!
وقد حدث منذ أيام قليلة أن اعتدت فتاة بلطجية بجسارة غير عادية على طبيبة وضربتها بكوب زجاجى فأحدثت فى وجهها جروجاً غائرة، لمجرد أن اعترضت الطبيبة، وهى تركن سيارتها أمام المستشفى التى تعمل بها، على أن تفرِض البطجية عليها أتاوة لتسمح لها بالركن فى الطريق العام، الذى وضعت البلطجية وعصابتها أياديهم عليه واعتبروه ملكاً خاصاً بهم يلزم أن يدفع المواطنون مقابل الانتفاع به!
لم تعد هذه مجرد واقعة فردية خارج السياق العام، مما جعل أحد خبراء الأمن يتوقع أن تقع مجزرة قريبة فى الدقى بسبب فرض عدد من البلطجية سطوتهم بالإجرام المادى والبذاءة وفحش السباب على موقف مايكروباص وفرض أتاوات على السيارات وعلى السائقين، وقد شجعهم خوف الناس وامتثالهم للبلطجة إلى أن تمادوا إلى التحرش بالفتيات والسيدات حتى صار استخدامهن للمايكروباص، الذى لا بديل له، عملية محفوفة بالتعرض للامتهان والإذلال!
يُحذِّر الخبير الأمنى من أن طاقة الناس على التحمل شارفت على النفاد، وأنه من المتوقع قريباً أن يُضطر الناس إلى اللجوء إلى العنف المضاد لحماية أنفسهم من هذا العدوان الذى تتركهم الدولة فيه وظهورهم إلى الحائط.
الحقيقة الموجعة، هى أن ما حدث ويحدث أمام هذه المستشفى وفى موقف المايكروباص المذكور، صار واقعاً كابوسياً بطول البلاد وعرضها، حيث يرتع البلطجية وهم فى طمأنينة غير عادية من أن تردعهم أجهزة الدولة، ومن أن يتمكن أحد من مواجهتهم أو مجرد الاعتراض على جرائمهم التى يقترفونها فى عز الظهر!
بل تدهورت الأوضاع إلى حدود أسوأ عندما صار المواطنون العاديون يلجأن أحياناً لخدمات البلطجية فى إنجاز مهام خاصة بهم، والغريب أن منها ما هو قانونى، بعد أن عجزوا عن نيل حقوقهم بالطرق القانونية، مثل تنفيذ أحكام قضاء نهائية واجبة النفاذ، ولكن الأجهزة الرسمية تقصِّر كثيراً عن أداء مسؤولياتها وتتوقف لأسباب غامضة عن القيام بواجب تنفيذ أحكام القضاء!
وتراجعت الأمور إلى ما هو أسوأ عندما يلجأ بعض المواطنين إلى البلطجية من باب اختصار الوقت والمال والمجهود، للحصول على استحقاقاتهم ما دام أن طريق التقاضى طويل، ولا ثقة فى أن تُنفَذ أحكامُه بالسرعة المطلوبة وبالشكل المأمول!
الأسئلة منطقية جداً: أين أجهزة الدولة؟ وما هى أسباب تقاعسها عن التعامل مع جرائم شديدة الخطورة واضحة كالشمس؟ ولقد نُشرِت تقارير رسمية وأبحاث علمية عن أن أعداد البلطجية صار مخيفاً، بعشرات الآلاف، وأنهم منتشرون فى ربوع مصر لا يخلو مكان واحد منهم، وأنهم جميعاً معروفون بالإسم والعنوان وعلاقات القرابة والصلة لدى أجهزة الأمن، فما الذى يُكبِّل أجهزة الأمن عن إعمال القانون؟ وما صحة الكلام الذى نُشر مئات المرات على الرأى العام فى الصحافة والتليفزيون، عن أن أجهزة الأمن تعتمد على البلطجية منذ عصر مبارك فى أعمال لا تُفضِّل هذه الأجهزة أن تتورط فيها مباشرة، مثل التصدى لمظاهرات المعارضة السلمية، ومثل التخريب العمدى للعمليات الانتخابية لتسهيل تزوير مرشحى حزب مبارك، إلى غير هذا من المهام القذرة؟
وبالمقابل، فإن مسؤولى هذه الأجهزة يغمضون العين عن جرائم البلطجية الأخرى من باب التسهيل لهم فى أكل العيش، حتى لو كان بهذه السبل، حتى ترتب على تأسيس قاعدة المنفعة المتبادَلة بين أجهزة الدولة والبلطجية خسارة دائمة لعموم المواطنين!
كيف تصمت الداخلية منذ الإطاحة بمبارك وحتى الآن عن التعليق على هذه المعلومات المتداولة التى أكسبها صمتُ المسؤولين صدقية لدى الرأى العام؟
للأسف الشديد، فإن العقلية السائدة فى الداخلية لا تدرك مدى التخريب الذى يضرب العلاقة بين الشرطة والشعب، بسبب ترك مثل هذه الأسئلة عالقة، كما أنهم لا يعرفون أن هذا التجاهل هو أول ما ينال من التضحيات الهائلة التى يجود فيها الشرفاء من الشرطة بأرواحهم وهم يقومون بالواجب!
لقد كثر الكلام حتى صار شبه حقيقة عن أن ظاهرة أولاد الشوارع هى أول مفرخة للبلطجية، حيث يتربى هؤلاء الأطفال فى بؤس حقيقى ومعاناة غير إنسانية تميت قلوبهم الصغيرة وتزرع فيها القسوة والرغبة فى الانتقام، وهو ما يتجلى فى أعمال العنف الرهيب..إلخ
وكان الرئيس السيسى قد تناول خلال خطاباته الانتخابية موضوع أولاد الشوارع، واقترح تعبيراً أكثر إنسانية "أولادنا فى الشوارع"، وتحدث عن وجوب إيجاد حلول للظاهرة التى اعتبرها مسيئة لنا جميعاً، وعلى رغم جمال التعبير الذى اختاره الرئيس إلا أنه لم تظهر له أى نتائج على الأرض!
هذه القضية بتفاصيلها المتعددة هى واحدة من المهام العاجلة المنوط بالبرلمان الجديد أن يوليها اهتماماً بعد طول إهمال. وهو ما يلزم، قبل مساءلة الداخلية، أن تصاغ الأسئلة بشكل موضوعى، أى بعد أن يتيقن البرلمان من الحقائق، خاصة فيما يشاع عن علاقة مريبة تربط الشرطة، أو بعض أفراد الشرطة، بالبلطجية، وقد تكون نقطة البدء الأفضل بتشكيل لجنة لتقصى الحقائق حول هذا الموضوع وتاريخه وتفنيد الآراء الرائجة واقتراح الحلول، إلى آخر بنود هذه القضية المركبة.