التحرير
ناصر عراق
حفنة ذكريات مع... الجنيه!
تصدر الجنيه المصري قائمة الأفضل تصميمًا على مستوى العملات الورقية في العالم، كما جاء في التقرير الذي نشرته صحيفة التليجراف البريطانية أمس، وهو أمر أسعدنا نحن المصريين بطبيعة الحال، رغم أن الجنيه الآن يكابد الأمرين في سوق المال، فقد تضعضعت أحواله، وأهينت كرامته، فانكسرت نفسه، وفقد عرشه التاريخي الذي كان.

تعالوا أقص عليكم حفنة من ذكرياتي مع الجنيه، لعل الذين لم يكملوا الأربعين من عمرهم يكتشفوا المصير الحزين الذي آل إليه سيد العملات الورقية في العالم.

في عام 1970 كنت أشتري كيلو جرام لحم بنصف بجنيه، ولم يكن عمري قد تجاوز عشرة أعوام آنذاك، وكانت مصروفات المدرسة الابتدائية لا تتعدى أربعين قرشًا، وكان عدد المصريين نحو 32 مليون نسمة، وفي عام 1974 ارتفع سعر كيلو اللحم إلى 90 قرشًا، ومع ذلك كنت أعطي الحاج رشاد الجزار الجنيه ويناولني الكيلو والقروش العشرة الباقية.

أما في عام 1975 -وكنت في الصف الثاني الإعدادي- فقد أهداني والدي رحمه الله (عيدية) عيد الفطر ومقدارها ربع جنيه، فذهبت -مع ابن عمي- إلى سينما راديو بقلب القاهرة لأشاهد العرض الأول لفيلم (الكداب)، لمحمود ياسين وصلاح أبوسيف، وكان ثمن تذكرة الصالة 16 قرشًا ونصف القرش، وتناولت طبق كشري بخمسة قروش في محل "صبحي" أفخم محل كشري في مصر آنذاك. أما تذكرة الأوتوبيس من بيتي بالمؤسسة بشبرا الخيمة لميدان التحرير فكانت بقرش صاغ واحد فقط.

طوال سنوات الدراسة في كلية الفنون الجميلة (1979/ 1984) لم يتجاوز مصروفي اليومي من أبي أكثر من نصف جنيه، بينما لم تزد مصروفات الكلية علي 10 جنيهات في العام، لكني عملت في صيف عام 1982 رسامًا في (مطابع السينما العربية) بشارع عرابي، والتي كان يملكها حسن جسور شيخ مصممي الأفيش السينمائي في مصر، وبالمناسبة هو الذي صمم أفيش فيلم (أحمر شفايف/ 1946) لنجيب الريحاني، وقد خصص لي الرجل راتبًا شهريًا مقداره 60 جنيهًا، فكدت أطير فرحًا وأنا أعد الجنيهات الستين التي أراها تتراقص بين يدي وتكاد تزغرد معي.

عندما أهلّ شهر مايو من عام 1984، وكنت في السنة النهائية من كلية الفنون الجميلة بالزمالك، فقد خرجنا في مظاهرات بشبرا الخيمة تهتف احتجاجًا (حسني مبارك حسني بيه/ كيلو اللحمة بسبعة جنيه)، وكان عدد المصريين في ذلك الوقت قد ارتفع إلى 43 مليون نسمة. وفي عام 1985، كنت مجندًا في الجيش المصري براتب قدره ستة جنيهات فقط، وأظن أنه ارتفع إلى تسعة جنيهات قرب نهاية خدمتي في ديسمبر من ذلك العام.

في عام 1988 عينتني الحكومة مدرسًا للرسم في مدرسة شبرا الخيمة الثانوية العسكرية براتب مقداره 48 جنيهًا فقط، فلم أستمر في وظيفتي سوى أعوام قليلة لم تتجاوز الخمسة، إذ كنت أعمل -في الوقت نفسه- محررًا ثقافيًّا حرًّا وأحصد أكثر من 300 جنيه في الشهر، وفي عام 1996 عملت محررًا ثقافيًّا في جريدة العربي الناصرية براتب قدره 200 جنيه، وفي سنة 2000 صار سعر كيلو اللحم يدور حول 30 جنيهًا على ما أذكر، ودفعت لابنتي مصروفات الحضانة 2500 جنيه عام 2003، وبلغ عدد المصريين أكثر من 70 مليون إنسان.
الآن... انحدرت قيمة الجنيه وتدهورت أحواله بشكل مؤسف، حتى لم يبق منه سوى التصميم المتفرد الذي أبهر جريدة التليجراف، وهو أمر أفضل من لا شيء على أية حال!
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف