المساء
خيرية البشلاوى
رنات أفضل فيلم لعام 2015
يستحق فيلم "تمبكتو" Timbuktu للمخرج الموريتاني عبدالرحمن سيساكو أن يكون أحسن عمل سينمائي عام ..2015 فالفيلم يجمع بين شئيئين لا يجمع بينها سوي مخرج بروح شاعر وموهبة رسام تشكيلي وحكمة الفلاح الفصيح إنه يجمع بين موضوع الإرهاب الأصولي وبين غنائيه الشعر.. فالنعومة والرهافة التي عالج بها المخرج حكاية بلدة أفريقية ابتليت بالجماعات الإرهابية فانقلبت حياتها الرعوية الراقدة في احضان الطبيعة البكر إلي حياة كئيبة قاسية وغارقة في ظلمات الفاشية الدينية وفي أكثر مظاهرها تخلفاً وجهلاً هذه النعومة تبدو آسرة في هذا الإطار.
عبدالرحمن سيساكو وهو واحد من أهم المخرجين ليس فقط في أفريقيا وإنما علي مستوي العالم "مواليد 1961" اختار أن يقدم أحداث الفيلم الذي كتب له القصة والسيناريو بالمشاركة مع كاتب آخر هو كيسن تول في بلدة قديمة في ريف مالي اسمها "تمبكتو" زحف إليها الأصوليون الجهاديون وسيطروا علي حياة أهلها ومعظمهم من الرعاة يمارسون حياتهم وسط البراري والوديان وحيث تغرد طيور الطبيعة الملونة المسالمة فوق قبائل أحبت الحياة وأسلمت حياتها البسيطة إلي الرحمن جل شأنه.
وفي مواجهة هذا الطوفان الذي بات يطارد السكان ويتحكم في حياتهم ويحرم عليهم سماع الموسيقي والتدخين وحتي كرة القدم التي يمارسها الصبية الصغار حرموها ووسط هذه المعاناة يلجأ البعض إلي الخيال يتحايل بعضهم في مشهد بديع علي قسوة التحريم فيتخيلون مباراة لكرة القدم من دون كرة إلا في خيالهم يقذفونها ويشوطونها بأقدامهم وكأنها حاضرة فتحتار كمتفرج هل تضحك أم تبكي علي بشاعة ما يفرضه الإرهاب والتكفيريون حين يدخلون البلاد ويتحكمون في حياة العباد.
ولكن كيف يمكن لراعي أبقار شاب متزوج من امرأة جميلة وله ابنة حلوة في عمر الزهور كيف يمكنه أن يستمر في ممارسة حياته وقد بدأ أحد المقاتلين يتحرش بزوجته ويسعي إلي تطليقها عنوة بحكم تصدره محاكم عشوائية يومياً وبصورة ارتجالية علي من لا ينصاعون للأوامر وكيف تستمر الحياة طبيعية إذا حرم علي النساء الظهور إلا كالأشباح مثلما حرم الضحك والعلاقات الشرعية بالمقاومة والكبرياء والتصدي يستطيعون بما فيهم النساء.
لقد حاول كيدان الراعي الشاب أن يتجنب الصدام مع هؤلاء الذين يسمون أنفسهم جهادون ولكن كيف بعد أن يغتالوا إحدي بقراته الوحيدة التي كان يسميها ويأنس لصحبتها وكأنها كائن يحاور وكيف يحمي كيدان ابنته البريئة الصغيرة وزوجته الشابة الجميلة ويحمي بيته. وماشيته وسط هذا السجن المعنوي الذي تحوم فوقه أشباح داعش.
في الثقافة الشعبية لهذه المنطقة في غرب افريقيا تعني كلمة "تمبكتو" المكان البعيد الآسر الجميل والخيالي بينما تمبتكو الفيلم بلدة واقعية بأناس حقيقيين في مالي وتعتبر المنطقة همزة وصل تصل ما بين أفريقيا وأوروبا والنفوذ العربي وتمثل مركزاً قديماً للدراسات الدينية وفي عام 2012 استولي الأصوليون علي المدينة الأمر الذي جعل القوات العسكرية في مالي بمساعدة الفرنسيين إلي شن هجوم علي هؤلاء الغزاة وأثناء فرارهم من المدينة يقومون بحرق واحدة من أكبر المكتبات في هذا البلد ويبدو أن المكتبة بما تعنيه كمصدر للعلوم والثقافة تشكل عدواً بالنسبة لهؤلاء التكفيريين تذكروا ما جري للمتحف العلمي هنا في القاهرة والشاب الإرهابي الذي اعترف بحرقه لها دون أن يرمش له جفن.
الفيلم لا يحدد الزمن الذي تدور فيه الأحداث لأنها تصلح لأي زمان يصل فيه الإرهاب باسم الدين إلي أي بلد فلا فارق بين بوكوحرام وداعش والنصرة وأنصار بيت المقدس إلخ فكلها مسميات لكائنات حرجت من رحم التطرف والإرهاب والايدولوجيات الدينية التي تحرم أشياء الحياة بما فيها الضحك واللعب وسماع الموسيقي إلخ.
جمال الفيلم الذي اختاره النقاد بنسبة 99% في موقع روتن توماتو الأمريكي ضمن أحسن أفلام سنة 2015 أنه وبرغم موضوعه شديد الجهامة يعتبر عملاً ممتعاً يستحوذ عليك بجمال المشاهد وروعة التشكيل بمفردات الطبيعة البكر المنبسطة بامتداد البصر تسبح فيها ببصرك وأنت حزين تتساءل ما سر هذا الابتلاء الرهيب الخارج من رحم شيطان رجيم هل هو الجهل.. الاستعمار مصاص الدماء والحياة والنور هل هي القبلية والتفكير المتجمد منذ عصور الظلام هل الديكتاتورية الغشيمة؟!
ومع طرح الأسئلة الخانقة لا تملك إلا التفاعل مع الشخصيات الحية البسيطة التي رسمها المخرج بفهم وروح طيبة وتعاطف في مقابل شخصيات جهيمة ونهيمة تمارس القتل وتحركها الشهوات وتفهم الاسلام والشريعة علي طريقتها الوحشية ورغم عادية الموضوع الفيلم غير عادي طازج وحيي بايقاع دقيق مبهج كقطعة فنية تتوجه للحواس وتثير المشاعر وترسم صورة موضوعية لهذه الجماعات الارهابية المنتشرة في افريقيا وخارجها وفي بلادنا المنكوبة بفصائل منهم.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف