الوطن
د. محمود خليل
أهل الثقة.. يا ليل..!
هل من المطلوب أن تكون كفئاً لتشغل موقعاً متميزاً؟ ليس بالضرورة، بل أحياناً ما تكون الكفاءة وبالاً على صاحبها، فالكفء فى أى موقع أحياناً ما يكون مصدراً للقلق، وذلك لسبيين، أولهما أن النشيط المجتهد فى أى موقع يكشف غيره من الخاملين البلداء، عملاً بقاعدة بالضد يظهر الضد، وثانيهما أن الكفاءة والتميز من دوافع الطموح، وهو أمر يثير قلق من يعمل الشخص الكفء فى معيته. ولو تخيلت أى شركة أو حتى شلة، فسوف تجد أن الشخصية القيادية فيها تحرص، وهى تختار بطانتها، على أن تكون بمنأى عن الشخصيات التى تثير القلق، وتميل إلى انتقاء الشخصيات التى تطمئن لها. فالاستمرار وسط مجموعة ممن تطمئن إليهم مع تمتعهم بدرجة متوسطة، أو حتى محدودة من الكفاءة، يمنح قدراً أكبر من الثبات، وهو -فى كل الأحوال- خير من القلق مع مجموعة من الأكفاء. هذا الأمر إنسانى إلى حد كبير. وربما ظن البعيد عن مراكز الفعل أنه سيكون أفضل حالاً، ولن يفعل كما فعل غيره إذا أصبح فى الصدارة، وسيلجأ إلى الأكفاء الأشداء، لكنه لو واجه نفسه بالحقيقة فسيجد أنه لن يفعل أكثر مما فعل غيره ممن يلوم عليهم.

ولعلك تعلم أن ثورة يوليو 1952 رفعت شعار «أهل الكفاءة»، وكان رجالها ينعتون العصر السابق الذى ثاروا عليه بالانتصار لـ«أهل الثقة». وقد أثبتت التجربة أنهم كانوا مسوقين فى ذلك بأحلامهم الثورية المثالية. فقد أحاط الرئيس عبدالناصر -رحمه الله- نفسه بمن يثق فيهم، وهو ما فعله أيضاً الرئيس السادات. ربما ظهر فى بطانة الرئيسين، فى بعض الأحوال، شخصيات تتمتع بالكفاءة، لكنها كانت استثناء يؤكد القاعدة ولا ينفيها. وتجربة الستينات تؤكد أن بعض من حاولوا إظهار كفاءتهم من رجال عبدالناصر كانوا يتوارون إلى الظل، ولم يبق معه فى نهاية المطاف -من الضباط الأحرار- سوى حسين الشافعى، وقد كان رجلاً صوفياً، وأنور السادات الذى كان يستوعب شخصية «ناصر» جيداً، وكان يفهم -وهو الرجل المجرب- أن الاحتياط فى إظهار الكفاءة واجب.

وقد تراكمت عبر تجربة الحكم فى مصر خلال السنوات الطويلة التى أعقبت ثورة يوليو فكرة الاستعانة بـ«المتوسطين»، وأصبح تقدير متوسط هو التقدير الشائع، ليس فى حياتنا السياسية، بل فى كل نواحى الحياة. قد تقول لى إن ذلك هو منطق الأمور. فـ«المتوسطون» فى كل المجتمعات البشرية هم الحالة الشائعة، وأقول لك: أنت محق بالطبع، لكن من الواجب ألا تهمل أن الأكفاء داخل مجتمعات أخرى لهم مكانة وحيثية، وقيمة وموقع، وأنهم يشكلون داخل بلدان العالم المتقدم القاطرة التى تجرها إلى الأمام، فى حين أنهم ما زالوا يقبعون فى «السبنسة» داخل مجتمعات العالم الثالث.

وإذا انتقلنا من التاريخ إلى المشهد الحالى، فسوف نجد أن قانون أهل الثقة ما زال يعمل، لكننى مطمئن إلى أن هذا الأمر لن يستمر طويلاً. فأوضاع البلاد والعباد لن تسمح بذلك، وسياقات ما بعد «يناير» و«يونيو» غير السياقات التى حكمت مصر بعد «يوليو 1952». فعما قريب لن يكون أمام من يتبوأ مواقع القيادة سوى اختيار الأكفأ، لأن الشعب المصرى لم يعد يحتمل المزيد من ليل أهل الثقة.. الناس اختلفت.. والدنيا اتغيرت!.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف