بهيج اسماعيل
الضمير الدينى والضمير الأخلاقى!
هناك مثل أجنبى يقول «المعنى لا الأغنية» وهو يعنى أننا ننفعل مع الأغنية ونحبها وتؤثر فينا من خلال المعني.. إذ هو أداة التوصيل وكما أن هناك معادن جيدة التوصيل للحرارة وأخرى رديئة فكذلك الدعاة.. والأغنية هنا لا تعنى الكلمات المغناة فقط وإنما ينسحب المعنى على كل الأساسيات التى تهم الناس.. فى المدرسة.. الدرس والمعلم.. فى دور العبادة الخطيب والخطبة.. فى الجيش.. القائد والجنود.. فى الفن الفنان وما يقدمه.. وحتى فى الحديث: اللغة ومدلولاتها.. فالناس أحبت دروس الدين من خلال الإمام الراحل «الشيخ متولى الشعراوى» إذ كان يفسر ويبسط المعنى ويشرح ما غمض من الكلمات بأسلوبه الجذاب الواعى مراعيا ألا تغيب الابتسامة عن وجهه. كما كان العالم الأديب الطبيب «مصطفى محمود» يعرض لنا عجائب الكائنات من خلق الله فى تنوعها وفى بيئتها مصورة فى برنامجه «العلم والايمان» يقدمها لنا دون أن تغيب عن وجهه الدهشة والايمان العميق بقدرة الخالق. ومع رحيل هؤلاء القادة الانسانيون وانعزال بعض من خلفهم داخل رؤاهم الخاصة.. واهمال العلم وتجهم العلماء اكتست العقول والقلوب بغلالات قاتمة أوصلت الكثيرين إلى نوع من «الاكتئاب الهاديء المستقر» ثم مع حركة المجتمع تم نوع من الفصل التعسفى بين «الضمير الديني» و«الضمير الأخلاقي».. واكتفى الضمير الدينى النابع من الدين ـ بأداء شعائره دون تطبيقها عمليا فى السلوك.. معلنا صيحته «هذا شيء وهذا شيء آخر» وهكذا حدث تجاوز فى الحلال والحرام والمشروع والممنوع حسب الحاجة والمصلحة مما جعل «الضمير الأخلاقى» يكاد يصب بالعطب فهذا الأخير هيئة رقابة ذاتية يصنعها صاحبها لنفسه على أساس من التقاليد والموروثات والحركة على الأرض.. وهو ليس ثابتا كالضمير الدينى وإنما يتحرك حسب احترام الإنسان لنفسه نابعا أساسا من الاحساس بأنك حر.. وهو يتناسب تناسبا طرديا مع مساحة تلك الحرية حيث يضعك فى نوع من المسئولية أمام نفسك أولا.. ثم أمام مجتمعك وهو المسئول عن حبك لبلدك ولوطنك وللمواطنين اخوتك حتى يصل بك إلى حب الناس جميعا.
> والضمير الدينى والضمير الأخلاقى يكونان معا ما يسميه العلماء «الأنا الأعلي» فى مقابل الأنا الذاتية التى قد تهبط بالفرد إلى مستوى الأنانية والعدوانية.. وهذه الأنا الأعلى هى الرقيب.. أو القاضى العادل.. الذى يكافيء ويدين.. إما «رضا» أو «قلقا» أمام حركة المجتمع وتغيراته الدائمة.
وحين يطلب السيد/ رئيس الدولة العمل على تنمية الضمير والأخلاق فإنه هنا يسعى إلى لم شمل أفراد المجتمع تحت مظلة واحدة واقية من الأعاصير.. آملا عودة النظام العام داخل الفرد وبالتالى داخل المجتمع وأن ينعكس ذلك ـ ايجابيا ـ على العمل والانتاج فقد حدث بعد ثورتى يناير ويونيو خلط بين المفاهيم.. خاصة بين مفهومى الحرية والفوضى كما كثرت «الفتاوي» و«التفسيرات».. كل حسب ما يري.. وبينما ترتبط الحرية بالأخلاق الحميدة تنجح الفوضى فى بعثرة تلك الأخلاق فى عاصفة من الفردية والأنانية ويجد الفساد متنفسا فيشمر عن ساعديه ـ كما هو حادث الآن. مستخدما كل أدواته بدءا من الرشوة.. والانتهازية.. والنهب والسرقة وحتى يصل إلى حد نفى الآخر تماما.. أو القتل.
> اصلاح الكبار صعب.. كما أن تعليمهم صعب.. لذلك فهم يلجأون إلى من يريحهم.. فيختارون الفتوى المناسبة أو الموروث المضمون وهم يملكون من التبريرات الكلامية ما يحلل ويحرم إذا دعت المصلحة.. ولعلنا شهدنا مظهرا واحدا لبعض أولئك المرشحين «الأثرياء» وهم يعتمدون الرشوة طريقا لوصولهم لمجلس النواب ـ وهم يعلمون جيدا أن هذا حرام ـ مستغلين حاجة الناس وفقرهم والناس بدورهم يحللون ذلك!
هؤلاء النواب الذين يفترض فيهم الضمير الدينى والأخلاقى والذين سيشرعون ويتدخلون فى مسيرة المجتمع.. كيف سيكونون قضاة وهم أصلا مهتمون؟!
> الأمل إذن فى الأجيال الصاعدة.. فى الأطفال الذين يتلقون دروسهم الأخلاقية الأولى من البيت والمدرسة والشارع.. من المدرسة حيث المناهج والمدرسون.. ومن البيت حيث الأم أولا قبل الأب (إذ أن الأب الفعلى أصبح التليفزيون وما يبثه من مسلسلات وأفلام كارتونية علاوة على ألعاب الـ games المشبوهة)!.
وأما الشارع ـ حيث يلتقط الأطفال فى اللغة السوقية الجديدة ـ فيحتاج إلى جراح.
> وإذا كان لابد من إحداث تغير سريع فإن ما نحتاجه هو «القدوة».. القدوة المضيئة فعليا واعلاميا.. إذ أن القدوة هى التجسيد الحى «للضمير والأخلاق».. لا الوعظ ولا القرارات ولا الصوت العالي.. ولا الكلمات التى تتبخر سريعا فى ديمومة الصراع اليومى المرير.