بعد نشر مقال الأسبوع الماضى: المنتخب من أدب العرب. قال لى الدكتور خيرى دومة، أستاذ الأدب العربى بكلية الآداب جامعة القاهرة. ما اعتبرته عملية فتح لجرح ضخم لا بد أن نواجهه بشجاعة. ولا نضعه على رف مؤجلات حياتنا.
قال لى الدكتور خيرى دومة. الناقد الأدبى والمثقف المصرى. حتى أنتم يا أهل الثقافة. تتعاملون مع قضاياكم الجوهرية. على طريقة هذه الأيام الغريبة. أكمل: هل هناك أهم من طه حسين؟ قلت: لا. عاد يقول: وهل هناك أهم من كتابة الأيام؟ قلت: من لم يقرأ الأيام. من الصعب عليه ادعاء الثقافة. أكمل: فما بالك بمن يحمل قلماً ويكتب وليس مستعداً للدفاع عن كتاب الأيام. شعاركم كلكم الآن: اكتب وأجرى. ولا أستثنى منكم أحداً. ولا حتى أنت.
قال هذا وهو يشير بإصبعه لوجهى. طلبت منه قليلاً من الإيضاح. قال: هل توقف واحد منكم. امام الطريقة التى يدرس بها كتاب الأيام فى مدارسنا؟ كان كتاب الأيام قد تقرر تدريسه على طلبة الصف الثالث الثانوى. ابتداء من العام الدراسى 2005 - 2006. ومن أجل أن يقرر الكتاب على الطلبة جرى الحذف منه. سمعت الكلام من بعض الأصدقاء المثقفين. واعتبرته كلاماً مرسلاً. وما أكثر الكلام المرسل فى حياتنا عموماً وفى حياتنا الثقافية بشكل خاص.
ولكنى عندما سمعت كلام خيرى دومة. بهذه الحدة من رجل لم أره إلا هادئاً. مبتسماً. أدركت أن وراء الأمر ما وراءه. كان الدكتور خيرى دومة قد درس الموضوع. أحضر نص طه حسين الأصلى. والنص المقرر على التلاميذ فى مدارسنا. وتوصل إلى نتائج خطيرة حول الموضع. وهذا الجهد من الصعب أن تجد من يقوم به فى مصر الآن.
تزاملت مع خيرى دومة فى لجنة القصة فى المجلس الأعلى للثقافة. وهكذا أصبحنا نرى بعضنا البعض مرتين فى الشهر. وهى ميزة كبرى فى الشتات المصرى الراهن. أحياناً أكتشف أن هناك من يعيش معى فى القاهرة. ولا أراه لأعوام. ولا نستغرب هذا الحال. فقد أصبحنا غرباء. رغم أننا نعيش فى زمن واحد. وتحولنا إلى غرباء. رغم أننا نعيش فى مدينة واحدة. ولكن أى مدينة هى القاهرة الآن.
فى القاهرة القديمة كانت هناك خطوط الأتوبيسات الطوالى. يستقل الإنسان الأتوبيس من العتبة يصل به إلى الهرم. ويركب الأتوبيس من رمسيس. فيصل به إلى القناطر الخيرية. هذا أصبح من رابع المستحيلات الآن. كل حى هو قاهرة قائمة مستقلة بذاتها. والانتقال بين القاهرات أصبح مسألة لا يقدر عليها. ولا حتى أصحاب السيارات الخاصة.
ولم يكذب خيرى دومة خبراً. وأرسل لى ملاحظاته. التى أضيف إليها ملاحظاتى على قصة شديدة الحزن هى قصة تدريس أدبنا العربى الحديث فى مدارسنا.
ولكن ما علاقتى أنا والموضوع؟ كانت لى قصة سابقة مع الموضوع. بطلها هو أستاذ جامعى للأدب العربى. لم أستأذنه فى كتابة إسمه عندما تحدث معى. كان نائباً لرئيس جامعة القاهرة لشئون خدمة المجتمع. ثم أعير للمملكة العربية السعودية. كانت له هو أيضاً علاقة بموضوع تدريس نصوص أدبنا فى المدارس المصرية. والمشكلة معقدة وصعبة. إن تم تجاهل نتاجنا الأدبى فى المناهج الدراسية نغضب. نقيم الدنيا ولا نقعدها. وهذا من حقنا. لأنه لا يمكن أن يدرس الطالب حتى الآن المعلقات القديمة أو رثاء أم فقدت إبنها. ولا يعرف شيئاً عن الأدب المصرى والعربى المعاصر له. ولم لا يدرس له أيضاً الأدب العالمى المعاصر. فإن استجابوا لنا وسمعوا كلامنا. ـ وهذا نادراً ما يحدث ـ فإنهم لا يأخذون النص كما هو. ولكن يدخلون عليه تعديلات كثيرة. ومتعددة. تفقده معناه. ويمكن أن تدفع الطالب لأن يكره الأدب بدلاً من أن يحبه.
وهذا يجعل تدريس الأدب فى مدارسنا خصماً من قيمة هذا الأدب. وليس إضافة له. مسألة محيرة. أيضاً هناك بُعدٌ خطير فى القضية. ألا وهى لعبة الناشرين. فالناشر هو المستفيد ـ ربما الوحيد ـ من أن يدرس نص أدبى على التلاميذ. لأن تدريسه يعنى طباعة ملايين النسخ كل سنة مضمونة التوزيع. لأن وزارة التربية والتعليم. تشتريها فوراً. فى وقت نجد الكتب مكدسة فى المكتبات. لا أحد يشتريها. هل رأيت حجم التداخلات والتعقيدات فى المسألة؟.
قبل أن أكمل رحلتى مع خيرى دومة. أتوقف أمام قصتى مع أستاذ الأدب العربى. التى ستأخذنى إلى أديب آخر ونص أدبى آخر. الأديب الآخر هو يحيى حقى. ونصه هو: قنديل أم هاشم. ليس فى الأمر أى تداخل بين قصة وقصة. مع أن هذا التداخل مطلوب. وأجمل القصص هى قصص الأصوات المتناقضة المتداخلة مع بعضها البعض. لكن قصة الأستاذ الجامعى ستعطى عمقاً لقصة خيرى دومة.
ما أكثر القصص المحزنة فى هذا السياق. وقبل الوصول إلى خيرى دومة وبيده كتاب الأيام. وفى الطريق إليه الأستاذ الجامعى وبيده رواية: قنديل أم هاشم. ها هى قصة أخرى عن تدريس أدبنا فى مدارسنا. جرت وقائعها منذ ثلاثين سنة بالضبط. أى أن الطفل الذى ولد وقتها. عمره الآن ثلاثين عاماً. والذى حدث أنه بعد حصول نجيب محفوظ على نوبل «أكتوبر 1988» فكروا فى تقرير إحدى رواياته على طلاب المدارس.
وهكذا أحضروا الروايات. وبدأوا فى القراءة من أجل تحقيق هذا الهدف النبيل. ولكنهم اكتشفوا أن واحدة من هذه النصوص قد لا تصلح. لأن فيها رقصاً وغناءً وعوالم وكلام فى السياسة. لا يحتمله الطالب. امن الذى قال بعدم احتمال الطالب لهذا الكلام. الله أعلم ورسوله. كم من الجرائم ترتكب باسم قدرة الطالب على الفهم والاستيعاب؟.
المهم. اكتشفوا استحالة تدريس نجيب محفوظ. لم يسأل واحد منهم نفسه ألا تصلح للتدريس رواياته عن مصر القديمة؟ لا أحب وصف الفرعونية. أو كتابه المترجم الوحيد: مصر القديمة؟! وهى أعمال تمجد الوطنية المصرية فى سابق العصر والأوان. ولا يوجد فيها ما يمكن اعتباره من المحاذير.
المهم حلاً لهذه المشكلة تقرر أن يدرس فصل من كتاب جمال الغيطانى: نجيب محفوظ يتذكر. وكفى الله المؤمنين شر القتال.