لغة الكلام على فمي خجلي *** ولـولا الحــب لم أتكـلم
يا مظهر التوحيد حسبي أنني *** أحد الشداة الهائمين الحوم
* كانت هذه الكلمات الرائعة تنطلق من فم أعذب الأصوات وأقواها وأصفاها وأحبها للرسول "ًص" وهو الشيخ النقشبندي لتزيل من نفسي هموم السجن كله وتغسل أحزاني وتجدد همم الصلاح وعزمات الإيمان ودفقات الحب المتجددة فيها للنبي"ص" .. وتجعلني أكثر حرصاً علي الراديو الترانزستور من أن يضبط في أي تفتيش .. ويؤزني أزاً علي البحث عن أفضل مخبأ ممكن في الزنزانة للراديو الصغير ومعه الأوراق والأقلام .. وكان ضباط السجون والمخبرين يجدون في البحث عن هذه الأشياء الثمينة في أوقات الشدائد ولا أدري لماذا كانوا يهتمون بها فهي أقل من تضييع جهودهم في ذلك .. أما إذا هدأت الأمور فقد يدخل التلفزيون للعنابر .
* كان حب الرسول "صلي الله عليه وسلم " يتعمق ويتعملق في قلبي كلما استمعت لكلمات النقشبندي فأفكر في سيرة الحبيب مجدداً وأدرسها وأدارسها مرات .
* ولد يتيم الأب ثم لم يهنأ بأمه فماتت ليتجرع كأس اليتم كاملاً .. ورغم ذلك لم يكره أحداً أو يحقد علي صاحب نعمة مهما عظمت .. ولم يجعله اليتم مدللاً فاقد الإرادة والجد أو يجعله فاقداً للأمل أو عزة النفس .. فقد أحيط بالحب والود من الجميع بدءً من جده سيد بني هاشم مروراً بعمه الحنون أبي طالب وأسرتيهما الذين غمروه بالحب المعتدل الذي لا يعرف التدليل المفرط أو القسوة والغلظة وكلاهما يقتل في النفس فضائل كثيرة .
طوعاً لأحكام القضاء خطي علي *** هذا السري خطو اليتيم المعدم
متجرداً من كل جاه ظاهر *** وبغير جاه الله لم يستعصم
* لقد جاء النبي "ًص" إلي الدنيا وهي تنتظر نبياً ينقذها وولد في أمة تحتاج إلي نبي يهديها ويوحدها .. زاده اليتم صلابة ورحمة وشفقة واهتماماً بالضعفاء ولم يكسر إرادته .. كان علي صلة بالدنيا وليس منقطعاً عنها انقطاع الزهاد في الصوامع ولا منغمساً فيها انغماس أهل الدنيا الذين لا هم لهم غيرها .
* كان عريق النسب في أمة تجل الأنساب والأحساب .. لم يكن غنياً مترفاً يغلق عليه الترف همم النفوس وتواضعها وعزمات الإيمان والتوجه نحو السماء ولم يكن فقيراً معدماً بل كانت يده هي العليا دائماً .. واختار أن يكون عبداً رسولا ً انكساراً للرب سبحانه وتواضعاً للخلق وليقتدي به كل الدعاة وحملة الرسالة .. حتي كان لا يوقد في بيوته ناراً أو يطبخ فيها طعام لثلاثة أشهر وليس فيها سوي التمر والماء .
* أحب خديجة "رض" التي وقفت إلي جواره وواسته بنفسها ومالها فماتت عنه وهو في أمس الحاجة إليها .. وركن إلي دعم عمه الحنون أبي طالب ومساندته له في وجه قريش وحلفائها فمات دون أن يسلم رغم إلحاحه عليه ورغبته في إسلامه فخوطب بقوله " إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ " فاستسلم لأمر الله ولم يعقب .
* أحب ابنه إبراهيم فقبض ملك الموت روحه فلم يملك إلا الاستسلام لأمر مولاه وذرف الدموع عليه قائلاً لأصحابه الذين ظنوا هذه الدموع ضعفاً " إنها رحمة يبعثها الله في قلوب من يشاء من عباده الرحماء " .
* ويحب الحسن والحسين ويتسري بهما عن موت بنيه ويجد فيهما السلوى .. فيركبانه كالجمل في منظر مهيب وقد جاوز الستين وهو نبي الأمة ورئيس الدولة فيعجب عمر لذلك فيقول ضاحكاً " نعم الجمل جملكما ونعم الحملان أنتما " فيخبر بما سيجري عليهما من أقدار صعبة فيبشر الحسين بالجنة ويبشر الحسن بالسيادة في الدارين لحقنه دماء المسلمين .. ويفعل ذلك وهو راض عن ربه وقدره .
* أحب عمه حمزة وقدر دفاعه عنه فإذا بالمشركين يقتلوه غيلة في أحد ويبقروا بطنه ويجدعوا أنفه فيريد الثأر له فيمنعه ربه ويأمره بالصبر والعفو فيمتثل لأمر الله .
* ويحب مكة فإذا بغلاظ القلوب من المشركين يصرون علي إخراجه منها فيهتف قلبه ولسانه " إنك لأحب البلاد إليّ ولولا أن قومك أخرجوني منك ما خرجت " .
* ويحب أصحابه ويحنو عليهم فيمتحن فيهم فيراهم وهم يعذبون وينكل بهم فلا يملك لهم دفعاً أو نصرة .
* يؤسس مدرسة الصبر ويقوم علي إدارتها فيدخل المئات من أصحابه إليها ويتخرجون منها بامتياز فهذا صهيب الرومي يحصل علي وسام " ربح البيع يا صهيب " وبلال ينال وسام " بلال سيدنا "وآل ياسر يحصلون علي شهادة " صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة " وأنس بن النضر يحوز وسام " لو أقسم علي الله لأبره " .
* ويعز عليه ألا يجد العدل والرحمة في ذوي قرباه من مشركي قريش فينشد العدل لأصحابه عند النجاشي ملك الحبشة فيمدح عدله ورفقه رغم أنه علي دين آخر .. ترسيخاً لقيم الإنصاف في الحكم علي الناس مهما كانت ديانتهم .
* ويضيق به الحال في مكة فيذهب إلي الطائف فيسخر كبراؤها وزعماؤها وسفهاؤها منه فيقول أحدهم " ألم يجد الله غيرك حتي يبعثك " ويقول الآخر " لولا نزل هذا القرآن علي رجل من القريتين عظيم " ويقول الثالث " لو كنت نبياً حقاً لا أكلمك أبداً " فيصبر لأمر ربه ولا يبادل السوء بمثله ثم أمروا صبيانهم وسفهاءهم فضربوه بالحجارة " فأبي أن يدعو عليهم .. أو يسخط ربه عليهم وهو يملك ذلك .. بل دعا لهم " اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون" .
* وحينما عاد إلي مكة وجد يافطة معلقة في كل مكان " ممنوع دخول محمد " ولولا أن أجاره المطعم بن عدي ما استطاع العودة إلي بيته .
* وكان يمر علي القبائل يرجو نصرتهم أو حمايتهم فينصرفون عنه .. فلا يحقد عليهم أو يذكرهم بقبيح حتي تشرف أهل المدينة بنصرته.. فلو أن أهل الطائف نصروه لكان كل شرف وخير وبركة ودعاء لحق بالمدينة لحق بهم .. ولكنه الحرمان بحق.
* ثم ها هي مكة تقاطعه وأصحابه اقتصادياً لثلاث سنوات لا طعام ،لا مال ،لا زواج ،لا خروج،لا تجارة .. فجاع النبي وعطش كما جاع أصحابه وعطشوا حتي جاء الفرج .
إنه محمد "ص"ذلك النبي الكريم الذي بذل الغالي والرخيص لكي تصل إلينا الرسالة المحمدية سهلة نقية واضحة صافية غضة طرية قوية أبية .. فهل نحافظ عليها أم نضيعها .