هذه أول مرة.. فيما أتذكر - يعلن فيها عن إقالة مسئول كبير بمستوي محافظ الشرقية د. رضا عبدالسلام.. إقالة صريحة.. ليست من ذلك النوع الالتفافي الذي درجت عليه حكوماتنا عندما تريد أن تستبعد وزيرا أو محافظا أو حتي رئيس وزراء.. أو تطلب من فلان أن يقدم استقالته فيقدمها علي الفور.. ونعبر دائما عن ذلك بقولنا فلان "مستقال" أي أجبر علي الاستقالة بما يشبه الإقالة.
وهذه أول مرة - فيما أتذكر - يعلن المحافظ بنفسه خبر إقالته دون أدني إحساس بالقهر أو بالضعف أو الدونية.. المسألة بسيطة جدا.. قال له الوزير المسئول عن المحليات "اقعد في بيتك" فذهب مباشرة إلي بيته راضيا سعيدا قانعا بما قدم.. الأمر الذي يعني عند أصحاب العقول أن الرجل كان في نفسه أكبر من الكرسي الذي يجلس عليه.. وأكبر من المنصب.
صحيح أننا لا نعرف سببا مباشرا للإقالة.. الحكومة لم تعلن أي سبب لإقالته وتركت الأمر للتكهنات.. وهذا ليس جديدا علينا.. لا أحد يقول لنا لماذا جاء هذا المسئول إلي منصبه ولماذا يجب أن يغادره.. مازال أمامنا مشوار طويل حتي نصل إلي هذه الثقافة.. ولكننا علي يقين أن الحكومة لديها أسبابها التي لم تعلن عنها.. ولديها ما يبرر عدم إعلانها عن هذه الأسباب.. ودائما الحكومة عندها من المعلومات ما ليس متاحا لكل الناس.
ورغم ذلك فقد ذكرت "المساء" أن أبناء محافظة الشرقية استقبلوا خبر استبعاد محافظهم بحالة من الحزن.. وجاءت تعليقات رواد مواقع التواصل الاجتماعي علي شبكة الإنترنت في صالح الرجل.. وتشهد له بطيب الخصال والشفافية ومحاربة الفساد والانفتاح علي المواطنين والهمة والنشاط في متابعة العمل الميداني.. وذكر اللواء سامي سيدهم الذي تولي مؤقتا مهمة القائم يعمل المحافظ "أن د. رضا عبدالسلام إنسان محترم جدا وعلي خلق رفيع وشايف شغله كويس جدا ومفيش أحسن من كده".. بينما اكتفي الرجل بالقول بأن حب أبناء المحافظة له يكفيه.. وأنه سيعود إلي عمله بالجامعة أستاذا بكلية الحقوق جامعة المنصورة.. وهذا قضاء الله وقدره وهو راضي به وربنا يولي من يصلح.
وكما أن الإقالة جديدة علينا كذلك إشادة الناس بالمسئول المقال جديدة علينا هي الأخري.. نحن في الغالب الأعم أسري ثقافة "مات الملك يحيا الملك" التي توارثناها.. ولعل في حالة د. رضا عبدالسلام ما يعطينا أملا في مستقبل أفضل.
للأسف.. أنا لا أعرف المحافظ المقال ولا أظنه يعرفني.. والخطأ خطأي في ذلك لحساسية مفرطة عندي - أعترف - تمنعني الاقتراب من أصحاب المناصب.. لم أكن أعرف عنه أكثر من أنه محافظ مثل كل المحافظين الذين يأتون ويذهبون ولا نسمع بأسمائهم إلا عندما يؤدون اليمين الدستورية.. لكنني منذ حوالي أسبوع فقط شاهدت مصادفة تسجيلا مصورا له علي "فيسبوك" يتحدث فيه عن نشأته وأسرته ودراسته ودرجاته العلمية ويطرح بعض آرائه.. وقد شدني هذا الفيديو القصير من أول ثانية لما بدا فيه من عمق الرؤية ورقي اللغة وصدق المشاعر.
لا أعرف لماذا ولا متي تم تسجيل هذا الفيديو.. ولا الظروف التي استدعت منه أن يفعل ذلك.. وكم تمنيت لو أن كل المسئولين عرضوا علينا فيديوهات مثله قبل أن يتولوا مناصبهم حتي نعرفهم.. وقديما قالوا تكلم كي أعرفك.. وقد كان غريبا أن تري محافظا لا يمثل ولا يفتعل ولا يتكلف ولا يدعي ما ليس فيه.. ولا يتقمص شخصية غير شخصيته.. هو مواطن عادي.. من أسرة بسيطة.. مكافح.. تعبت أمه كي تحسن تربيته وتنفق علي تعليمه حتي تفوق وبلغ أعلي الدرجات العلمية.. يعرف قيمة الوفاء ولا يتنكر لأسرته وأهله.. هو من طينتهم وليس من طينة أخري.. لم يفقد ذاكرته ولم تسكره المناصب.. جاء بوالدته - الأم البسيطة - لتتصور معه وليبدي لنا كيف يقبل يديها أمام كل الناس وهو فخور بها.. لأنه واثق من نفسه.
لا أدري لماذا اقتنعت بصدقه وإنسانيته.. ولماذا تعاطفت معه وهو يقول إن المسئول يجب ألا ينسي جذوره وأصوله.. وأن أبناء البسطاء عندما يتفوقون في دراستهم يجب أن ينالوا أعلي المناصب في الدولة.. وأن تكون لهم الأولوية والأسبقية علي أبناء الباشوات وكبار المسئولين.. لأنهم تفوقوا رغم التحديات والظروف الصعبة التي واجهوها.
وعندما انتهي الفيديو لمعت في ذهني فكرة أن أكتب عن هذا الرجل.. لكن الحساسية المفرطة إياها منعتني.. فقلت في نفسي سأكتب عنه عندما يغادر المنصب.. وكأنها دعوة واستجيبت.. فقد غادر الرجل منصبه وها أناذا كتبت.