ورث «يزيد» الحكم عن أبيه معاوية مؤسس الدولة الأموية والسيف فوق رقاب المعارضين، وبالسيف شيّد «السفاح» مُلك بنى العباس على جماجم بنى أمية، كانت الرقاب تطير فى كافة الاتجاهات، ليس فى صف رافضى هاتين الدولتين فقط، بل فى صفوف المدافعين عنهما أيضاً. فقد تعلّم الجميع حمل السيف، وكان الخوارج أول من رفعوا السيوف فى معارضة الحكام. وقد تعلموا هذا الدرس منهم، وأخذوا يضربون أعناق المؤيدين للحكام، ولم يعتق الحكام فى المقابل رقاب هؤلاء. فمن رحم الاستبداد تولد السيوف وتتناسل وتتكاثر! ويحزن المتابع لهذا الصراع وهو يقرأ بعض الأفكار السياسية القديمة للخوارج الذين كانوا يرون أن أمر المسلمين شورى بينهم، وأن من حقهم اختيار من يحكمهم والثورة عليه إذا سلك طريق الظلم، لكن اعتمادهم على الخروج بالسيف جعل تجربتهم جزءاً من ثقافة الاستبداد بالمعارضة، كما يستبد السلاطين بالحكم، وتوارى النضج السياسى الذى امتازت به بعض أفكارهم تحت ظلال السيوف، ولم يبق سوى الفكر السياسى لأهل السنة والجماعة الذى يتبلور حول فكرة الخلافة، والفكر السياسى للشيعة الذى يتبلور حول فكرة «الإمامة»، وقد أخذت كلتا المدرستين بعد مرور ما يزيد على مائة عام على وفاة النبى صلى الله عليه وسلم فى التأصيل لفكرة حماية الخليفة أو الإمام بحد السيف.
لك أن تعلم أن أول سيرة كُتبت عن رسول الله جاءت بعد ما يقرب من 120 سنة من وفاته صلى الله عليه وسلم، وهى سيرة «ابن إسحق»، التى تم تهذيبها بعد ذلك فى سيرة «ابن هشام». وقد استعان كل كتّاب السيرة بنسب مختلفة بما كتبه «ابن إسحق». لست أشكك بالطبع فيما احتوته هذه الكتب، لكننى لا أستطيع أن أثق أيضاً فى كل ما جاء فيها، خصوصاً تلك المواضع التى تنسب إلى النبى صلى الله عليه وسلم عبارات وأقوالاً تتعاكس مع مجمل السيرة النبوية، والأخطر من ذلك تتناقض مع ما يقول به القرآن الكريم، الكتاب الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، من هذه العبارات على سبيل المثال، وليس الحصر عبارة: «جئتكم بالذبح»، فهى تتناقض مع الكثير من الآيات القرآنية مثل: «وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ»، «طَهَ مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى إِلَّا تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى»، «وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ»، «لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ»، «وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ».
من يتأمل هذه الآيات الكريمة يداخله شعور بأن عبارة «جئتكم بالذبح»، وحديث السيف اختُرعا اختراعاً فى ظل أجواء سياسية معينة. وقد يكون من المفيد أن أشير إلى أن الكثير من كتب السيرة والحديث كُتبت فى عصر الدولة العباسية التى يبدأ تاريخها بأبى العباس «السفاح» الذى كان يصف نفسه قائلاً: «أنا السفاح الهائج والثائر المبير». هل يمكن أن تستبعد فى هذا السياق أن يُدس على كتب التراث ما يؤيد التوجهات الدموية لبعض الحكام فى هذا العصر أو ذاك، ويُنسب إلى النبى ذاته صلى الله عليه وسلم ما لم يقله؟ الأجواء التى تم إنتاج هذه الكتب فيها وطبيعة علاقة المؤرخين والفقهاء برجال السلطة تجعلنا ننزّه النبى عن ذكر مثل هذه الجملة القاتلة.. جملة «جئتكم بالذبح»!