جميل مطر
علاقة السياسة بدورات المياه
تعلمت من قراءة التاريخ أن من يتخذ من السياسة مهنة يصبح عرضة للإصابة بالجنون، أو لعله كان مصابا به عندما قرر امتهان السياسة. زادت ثقتى بهذه القناعة وأنا أتابع تصرفات السيد دونالد ترامب المرشح الجمهورى لمنصب رئيس الجمهورية الأمريكية، وجاءت قصته أو فضيحته مع السيدة هيلارى كلينتون الأسبوع الماضى لتضاعف هذه الثقة.
***
أثناء مناظرة حضرها عدد من المرشحين من كلا الحزبين، غادرت السيدة كلينتون القاعة لدقائق عادت بعدها لتجد نفسها محل جدل غريب. كان، حتى تلك الليلة، أمرا مألوفا وعاديا أن يغادر ضيف من الضيوف مجلسا ليذهب إلى دورة المياه استجابة لنداء الطبيعة. تصرف يمارسه الكبار والصغار والرجال والنساء على حد سواء، وفى غالب الأحيان، لا يلفت انتباه أحد ولا يستدعى التعليق. ما أن عادت السيدة كلينتون إلى مكانها إلا وأدرك الحاضرون أن الذهاب إلى دورة المياه لن يكون بعد تلك الليلة أمرا مألوفا. إذ فاجأ المرشح ترامب المرشحة كلينتون بهجوم لاذع متهما إياها بأنها مارست فعلا مقززا بذهابها إلى دورة المياه وباستجابتها لنداء الطبيعة. استجابت للنداء وأهملت التزامها المناظرة. تجاهلت واجباتها الوطنية من أجل فعل مقزز.
كنا نعرف عن السيد ترامب أشياء وخصالا عديدة، أكثرها لا يشرف أحدا. كنا نعرف عن عمله المتخصص فى المتاجرة بجمال النساء والمخدرات والخمور وأنشطة الكازينوهات وبالليل وأهل الليل. ثم جاءت الحملة الانتخابية فقدر لنا أن نعرف أكثر عنه. عرفنا وعرف كل الناس أنه يكره المكسيكيين والمسلمين وكل الأمريكيين المنحدرين من سكان أمريكا الأصليين والإفريقيين. عرفنا أيضا أنه يكره الفقراء ويسخر من المعاقين ويقشعر بدنه لرؤية «المنتقلين» جنسيا، أى هؤلاء الذين تفرض عليهم تركيبتهم الجسمانية اتخاذ قرار بالانتقال من الذكورة إلى الأنوثة أو العكس. نعرفه الآن وقد انحدر إلى درك جديد.
****
أثناء غياب السيدة هيلارى عن القاعة، تطوع السيد ترامب لإشباع فضول زملائه المرشحين للرئاسة الأمريكية فقال لهم إنه يعرف أين ذهبت هيلارى. قال إنها تخلت عنهم لتقضى بعض الوقت فى دورة المياه، مصرا على أنه تصرف مقزز. قال بالنص «لا أريد التحدث عنه لأنه حقيقة مقززة جدا». ليته توقف هنا، وأقصد السيد ترامب، ولكنه لم يتوقف. هو يعتقد أن من يذهب إلى دورة المياه أثناء اجتماع أو عمل، «إنسان ضعيف الإرادة وناقص الطاقة»، وبالتالى لا يصلح لمناصب قيادية. على كل حال لم تكن هيلارى المرشح الوحيد الذى نالته إهانة ترامب، بل شاركها مرشح آخر هو السيد روبيو، الذى عرف عنه أنه يعرق كثيرا، إذ قال عنه ترامب إنه إذا تولى منصب الرئاسة فسوف يضر بالمصالح الأمريكية» لأن حبات العرق المتساقطة من جبهته سوف تعقد عمليات التفاوض مع رؤساء الدول الأخرى، وبخاصة إذا كان الطرف الآخر فى التفاوض الرئيس فلاديمير بوتين؟
***
درجة من الجنون، أم درجة من التفاهة، تلك التى يصاب بها أحيانا أو دائما الأشخاص الطامحون إلى مقاعد الحكم والجالسون عليها. قرأت لمن يقول إن ترامب يعتبر كل ما يخرج من جسم الإنسان أمرا مقززا. تقول الرواية إن محامية فى النيابة العامة كانت تحقق معه، وفى أثناء التحقيق اعتذرت لتتغيب عن غرفة التحقيق دقائق معدودة، عادت بعدها لتجد السيد ترامب ثائرا عندما بلغه أنها خرجت لترضع طفلها فى الغرفة المجاورة، اتهمها بأنها «ترتكب فعلا مقززا» ألا وهو الرضاعة. رواية أخرى تؤكد أنه اتهم المذيعة التى أدارت مناظرة المرشحين للرئاسة بالتهمة ذاتها، أى ارتكاب الفعل المقزز، لأنه لاحظ أن شريانا رفيعا انفجر فى عينها فاحمرت العين بسبب ما ذرفته من دم، ملمحا إلى أن بين النساء والدم علاقات غير قليلة.
* * *
كان لثورة ترامب على هيلارى التى استخدمت دورة المياه جوانب ايجابية. فمن جانب، انتفضت مؤسسات المجتمع المدنى الناشطة فى مجالات صحة الكلى، محتجة على موقف المرشح الأمريكى المناهض لدورات المياه، وحصلت على دعم مالى ومعنوى كبيرين من الرأى العام. ومن جانب آخر، استفادت المنظمات النسوية التى راحت تجدد الشكوى من عدم المساواة بين الرجال والنساء فى فرص استخدام دورات المياه بدليل أن المرأة تنتظر وقتا أطول فى طوابير استخدام دورات المياه.
من جانب ثالث، استفادت حركة حقوق «المنتقلين» جنسيا من الذكورة إلى الأنوثة أو من الأنوثة إلى الذكورة من أزمة ترامب وهيلارى، فقد قررت منظمات مدنية شن حملة إعلامية تهدف إلى حث المهندسين المعماريين ومهندسى التزويق على عدم الاقتصار على تخصيص دورتين فقط للمياه واحدة تحمل على بابها حرف M إشارة إلى الرجال والثانية تحمل على بابها حرف W إشارة إلى المرأة. يطالبون بدورة مياه يتزين بابها بالحروف التالية M to W إشارة إلى المواطنين المنتقلين جنسيا من الذكورة إلى الأنوثة، وبدورة مياه رابعة تحت إشارة W to M وتخصص لاستخدام المنتقلات أو المتحولات من الأنوثة إلى الذكورة.
* * *
المشكلة فى حقيقتها شديدة الرمزية ــ السيدة هيلارى تريد أن تتساوى مع الرجال وبخاصة أنها تطرح نفسها كأول امرأة ترأس أمريكا. ولكنها حين بدأت تمارس حقها فى الترشح كزعيمة لكل الأمريكيين فوجئت بأنها مضطرة لأن تقف فى طابور طويل أمام دورة المياه المخصصة للنساء، بينما المرشحون من الرجال يقضون حاجاتهم فى وقت أقصر. هكذا، وبسبب تعدد مرات استخدامها لدورة المياه وقضائها وقتا أطول فيها سوف تبدو السيدة الرئيس أمام الرأى العام أقل انضباطا بينما الرجال المنافسون والمرءوسون لها منضبطون، وبالتالى سوف توصم من البداية بأنها أقل أهلية للحكم والقيادة، وهى الوصمة التى حاول المرشح ترامب إلصاقها بها.
* * *
لم يخطر يوما على ذهنى أن تكون هناك علاقة ما بين الزعماء ودورات المياه من نوع يختلف عن علاقتنا التقليدية بها. أعرف الآن أن ونستون تشرشل كان يقول ما معناه إنه بقدر ما نضع فى دورات مياهنا من جهد وذوق بقدر ما تعيد هى صياغتنا وتشكيلنا وإعدادنا لتحمل مسئولياتنا.
بفضل هذه العبارة صرت أعرف سببا من أسباب ضعف كفاءة الموظف المصرى وقيادات الإدارة والبيروقراطية المصرية.
****
ما يفعله وينطق به دونالد ترامب فى حملته الانتخابية يؤكد الافتراض بضرورة توفر درجة من الجنون فى المرشح للعمل السياسى، وما يفعله قطاع من الرأى العام ويعلق به على تصرفات المرشح للمنصب السياسى يؤكد الافتراض بضرورة توفر درجة من السذاجة أو الخبل لدى نسبة معتبرة من الناخبين لضمان الاستقرار وحفظ هيبة الدولة.