حسن ابو طالب
مكافحة الفساد بين المعلومة الدقيقة والتصريحات المفزعة
فى أيام يناير المجيدة 2011 وما بعدها، وبينما يكتظ ميدان التحرير بالمصريين من كل فئة ولون، يتداولون فى كيفية الخروج من أسر نظام مبارك، وكانت الآمال قد وصلت إلى عنان السماء بأن تحول حال البلاد إلى ما يتمناه كل فرد لن يستغرق سوى أيام قليلة تصدر فيها قرارات ويحل أناس محل آخرين وتنتهى بذلك الحكاية. كان هناك تصور بسيط خارج عن المألوف ولكنه وجد من يدعمه ويغذيه. وفى الأثناء انتشرت معلومة أن ثروة مبارك وأبنائه تجاوزت 70 مليار دولار هُربت إلى الخارج حسب ما جاء فى «الجارديان» آنذاك، وتبارى الجميع فى المناداة بضرورة إعادة هذه الأموال الضخمة، ووصلت الأمور، من حيث سذاجتها المفرطة، إلى حد أن تجمعات من المتظاهرين بدأوا يحسبون كم سيحصل كل مصرى على نصيب من هذه الثروة والتى حتماً ستعيدها البنوك العالمية تقديراً لثورة المصريين. وقد رأيت مثل هذه التجمعات وهم يتداولون الحساب وكل يُمنى نفسه بثروة هائلة من السماء، وكانت تحدث خلافات طريفة، فهل ستكون هذه الثروة الموعودة بالدولار أم بالجنيه المصرى.
وبعدها استيقن المصريون أن ما جاء فى خبر «الجارديان» البريطانية لم يكن سوى سراب وحسب، بل أيضاً جزء من حرب المعلومات والتى نعرفها الآن بالجيل الرابع للحروب بغية زيادة لهيب الوضع المصرى وزيادة غليانه لعله يصل إلى نقطة الفوضى الخلاقة الموعودة. وكلنا نتذكر أن كاتباً كبيراً أعاد استخدام هذه الأرقام فى تحليلات له كرقم موثوق وكجزء من تثوير الوضع دون تدقيق فى الرقم أو المصدر أو الهدف من نشره بواسطة «الجارديان» الواقعة تحت سطوة الدوحة، وحين استدعاه النائب العام ليكشف عن مصادره الموثوقة لعلها تفيد الدولة المصرية فى استعادة هذا الرقم الهائل من الدولارات المهربة، أكد أنه ليس لديه سوى ما نشرته «الجارديان»، وهكذا انتهت الحكاية بكذبة كبيرة.
أتذكر هذه الحكاية المريبة وعينى على تصريحات المستشار هشام جنينة الأخيرة بشأن حجم الفساد فى المؤسسات مصر، والتى قدر فيها حجم وتكلفة الفساد فى مصر العام 2015 بمبلغ 600 مليار جنيه، وهو رقم هائل، وبحسبة بسيطة نجد أنه يساوى 75 مليار دولار، وهو رقم قريب مما نشرته «الجارديان» إبان يناير 2011. وبغض النظر عن أن السيد المستشار لم يفصح عن طريقة حساب هذا الرقم الهائل والمعايير العلمية والمحاسبية التى قدر على أساسها هذا الرقم وعلاقته بحجم النشاط الاقتصادى الفعلى، فمن المهم أن نتساءل عن السبب فى أنه لم يقدم التقارير التى تثبت فساد المؤسسات أو الأفراد أو أية جهات رسمية أو غير رسمية أولاً بأول إلى الجهات القضائية وأجهزة الدولة المختصة لمحاسبة المتورطين فى هذا النشاط المجرّم قانوناً، وهو ما أثار العجب واللغط والأسى فى آن. ومع زيادة حدة الأسئلة أعاد السيد المستشار تكييف الأمر فى صورة تراجع نسبى، وهو ما صرح به إلى برنامج «مانشيت» المذاع فضائياً، يوم الأحد الماضى، بقوله: «هناك فساد بجميع أجهزة الدولة أكثر من 600 مليار جنيه فى الفترة ما بين 2012/2015، وإن هذا التقرير تم إعداده بتعاون مشترك مع وزارة التخطيط»، أى إن حجم الفساد فى السنة الواحدة طوال تلك الفترة هو 150 مليار جنيه، وهو ربع الرقم الذى قيل فى التصريح الأول، ورغم ذلك فما زال الرقم كبيراً ومفزعاً إن كان ذلك صحيحاً.
وأيضاً لم يقل لنا هل هذه تكلفة فعلية مستندة إلى وثائق ومستندات أم أنها مجرد تقديرات مرتبطة بتصورات عن حجم النشاط الاقتصادى ككل تشارك فيه مؤسسات حكومية وغير حكومية وقطاع خاص، أم أنها محاكاة لبعض الأساليب الإحصائية التقديرية ذات النزعة الجزئية فى أنشطة بعينها والتى تُعمم بعد ذلك على أنها حقيقة كلية، ولم يقل لنا أيضاً هل يدخل فى هذا التقدير ما يُعرف بالرشى البسيطة أو الإكراميات التى قد يلجأ إليها كثير من المواطنين وهم مغلوبون على أمرهم لإنهاء معاملاتهم المشروعة مع موظفين صغار يرون أن هذه الإكراميات نوع من التحية والتقدير لا أكثر ولا أقل.
وبالرجوع قليلاً إلى عام ونصف مضت، وتحديداً فى 19 يونيو 2014، وفى لقاء مع قناة «سكاى نيوز عربية»، أفاد المستشار جنينة بأن حجم الفساد المالى والإدارى فى مصر يصل إلى 200 مليار جنيه سنوياً، مشيراً إلى أن هناك بعض المؤسسات تعرقل عمل خبراء الجهاز بما يحول دون كشف بعض وقائع الفساد سواء فى الجهاز الإدارى للدولة أو فى المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية الأخرى. وبعدها بستة أشهر وتحديداً فى 10 ديسمبر 2014 خرج علينا عاصم عبدالمعطى، رئيس المركز المصرى للشفافية ومكافحة الفساد والوكيل السابق للجهاز المركزى للمحاسبات، فى تصريحات لفضائية عربية أخرى قائلاً: «إن الفساد فى مصر يهدر 800 مليار جنيه سنوياً»، وإن مصر ليس لديها «خطة واضحة لمكافحة الفساد وتعمل بطريقة موسمية». وفى اللقاء ذاته ذكر أن الدولة اتخذت على مدار الشهرين الماضيين إجراءات احترازية لمواجهة الفساد، ما ساهم فى تحسن ترتيبنا فى المؤشر العالمى لمواجهة الفساد إلى المرتبة 94 عالمياً من 175 دولة على مستوى العالم. أى إن بدايات حكم الرئيس السيسى وإجراءاته ضد الفساد قد أسهمت فى تحسين موقف مصر عالمياً فى هذا المجال. وهو ما أثبته بالفعل تقرير أصدرته منظمة الشفافية الدولية مؤخراً، عن مكافحة الفساد فى مصر، وأوردت جريدة «الحياة الدولية» بعض ما فيه بتاريخ 22/12/2015، مشيراً إلى تحقيق مصر قفزات كبيرة على المستوى الدولى منذ العام 2012، حين كانت تحتل المركز 118 من بين 175 دولة، ثم المركز 114 فى العام 2013، قبل أن تقفز إلى المركز 97 فى العام 2014.
وما يهمنى هنا هو أن الأرقام والتقديرات التى قالها المسئول الأول عن الرقابة فى مصر تتغير بين فترة وأخرى، وكما رأينا أنها تراوحت بين 150 ملياراً إلى 600 مليار، وهذا معناه ببساطة أنها أقرب إلى تقديرات عشوائية اتسمت بالمبالغة لعل ذلك يلفت النظر لأهمية مكافحة الفساد، غير أن المبالغة تجاوزت حدود الإثارة المقبولة، وهو ما لا نرضى به لمسئولين كبار يُفترض فيهم الدقة فى المعلومة والحرص على الوطن.