البديل
محمد دوير
حصاد الزمن الثوري
المسار الذي انطلقت خلاله الثورة المصرية منذ التنحي وحتي تنصيب السيسي رئيسا للبلاد، هو مسار كشف عن تراكمات وطبقات سياسية وفكرية واجتماعية كانت متوارية خلف قضبان استبداد النظام السابق، فخطاب التنحي كان بمثابة بداية لحالة فوران جماعي أصابت الجميع ، فاعتقد شباب الثورة أنهم جنرالات العصر القادم، وتهيأت النخبة إلي القيام بدور منظري الدولة الجديدة، وتوهم تيار الإسلام السياسي أن ثمار الثورة تكاد تدنو من حديقتهم، واستبشر الناس خيراً بأن نظام مبارك بمجموعته المهيمنة هو الباب المسدود الذي حال دون نهضة وتقدم وعزة مصر، فرأيناها جميعا علي قدر ما كنا نحلم به، وليس علي قدر ما يسمح الواقع ورفعنا شعارات، دولة مدنية، دولة العدل، عودة الحقوق الضائعة محاصرة الفساد وتجار الأوطان وإلغاء معاهدات الذل والعار .. الخ .

كل هذه الأحلام التي ارتقي جزء كبير منها إلي حد الأوهام التي ذهبت بعقول أصحابها، فانخرط كل فصيل في سحب سجادة الوطنية من تحت الآخر ،كل ذلك والمجلس العسكري يعتقد أنه صاحب الكلمة العليا في البلاد، وفقا ثلاث شرعيات: شرعية حرب أكتوبر التي ظل يحكم بها مبارك طوال ثلاثين عاما ومن قبله السادات، وشرعية استلام السلطة من مبارك وتأمين البلاد داخليا وخارجيا، ثم أخيرا شرعية تخليص البلد من الإخوان واستلام السلطة مرة أخري بإرادة شعبية في انتخابات هزلية أشبه بالتكليف.

وبين حالات المد والجزر ، الجذب والشد تجاهل الجميع استحقاق الثورة ذاتها، وفهمت وكأنها نهر يجب أن يصب مياهه في أرض الأحلام الوردية دون جهد أو عناء. وحينما اكتشف الجميع صعوبة الموقف الثوري دخلنا في آيات الخندقة الضيقة، فتجاذبنا حديث الإفك الوطني والتخوين المذهبي والديني، هذا التجاذب فتت القوي الثورية واصطاد المتصيدون في الماء العكر فطرحت علينا مسارات ديمقراطية في ظل السيولة الثورية، وتلك هي طعنة الغدر الثانية في الثورة بعد طعنة قبول انتقال السلطة للمجلس العسكري وإخلاء الميدان، طعنة الغدر هذه هي ما يسمي باستفتاء 19 مارس، وقد أرادها قادة الجيش وتيار الإسلام السياسي كذلك كي تدنو إليهم أكثر، فكان هذا الموقف بمثابة إعلان وفاة للمسار الثوري، وشهادة ميلاد قيصري للمسار الديمقراطي الذي كان يجب أن يتأخر قليلا.

لم يكن هذا فحسب بل أن المسار الديمقراطي ذاته اخطأ الخطوات، فجاءت الانتخابات أولا ثم الرئيس ثم الدستور، وهو اعوجاج ديمقراطي ودستوري يضاف إلى سلسلة اجهاضات المسار الثوري، فانكسر الوهج الثوري وكُفر الثوار وطُعن في مراميهم ووطنيتهم، ثم انقلبت أحكام القضاء علي المسار الديمقراطي ذاته وعدنا من جديد إلى حالة مغايرة عما بدأنا به بعد التنحي، ولكنها حالة أكثر سوءا وسلبية، وهي هيمنة فصيل واحد علي أركان الدولة. وهذا هو أسوأ اختيار لثورة في التاريخ، وهذا الأسوأ لسبب وحيد، أنه دفع ببعض أنصار الدولة المدنية إلى الوقوف مرة مع العسكر ومرات مع الاسلاميين، فحينما تضطر طوال الوقت كثوري للاختيار دائما بين السيء والأسوأ فهذا ليس مشهدا ثوريا علي الإطلاق، وإنما هو حالة إصلاحية بامتياز، ثم جاء إصلاح الخطأ بخطأ أكبر حينما تصورنا أن القضية هي التخلص من الإخوان بأي ثمن فرفضنا قوى الظلام وقبلنا بقوي الظلم علي طريقة أهل الفقه ” أخف الضررين ” والحقيقة أنهما طوال الوقت يحاربان من خندق واحد، خندق الثورة المضادة، ضد أي تحول ثوري حقيقي ينقل الأمة الي حالة تسمح لها بمعالجة أمراضها المزمنة.

والنتيجة المستوحاة هنا هي .. حالة ثورية مجتمعية خلعت رئيس البلاد، ثم استسلام لتولي المجلس الأعلي للقوات المسلحة مقاليد السلطة، ثم مسار ديمقراطي أجهض الحالة الثورية، ثم أحكام قضاء اجهضت المسار الديمقراطي المعوج، ثم تسليم السلطة للإخوان بانتخابات مشكوك في نتائجها وليس في سيرها الإداري، لينتهي الأمر باستدعاء صورة جديدة من حكم من قبل يناير.. إننا هنا أمام ثورة فقدت ثوارها .. ووطن فقد نخبته.. ومؤسسات منتخبة فقدت دستوريتها.. وقضاء مطعون شعبيا علي مصداقيته.. ومجلس عسكري اكتشف الكثيرون أنه يبحث عن تأمين مصالحه، وقوي سياسية يبدو أن متغيرات الواقع أكبر من قدرتها علي التكيف .. كل هذه التفاصيل تفرض علينا سؤالا محددا .. هل انتهت الثورة المصرية ؟

وهنا ينبغي أن نجيب علي هذا السؤال كالتالي: اتسمت الثورة المصرية مثلها كأي ثورة كبري بسمات عامة محددة، أهم هذه السمات:السلمية.. والتشاركية المجتمعية الواسعة، والمساندة الدولية، والمشاركة الواسعة لقطاعات الشباب والفتيات، والتنوع الطبقي والفئوي والاجتماعي… الخ، بيد أن أهم الصعوبات التي واجهتها كان المسار المتردي المتردد لتحقيق أهداف الثورة المباشرة أو العاجلة مثل المحاكمات وتحقيق إجراءات إصلاحية علي مستوي تضييق الفوارق الاجتماعية والاتساع في مجال الحريات العامة والتشكيلات الاجتماعية، والإقرار بأحقية الجميع في حصد ما تم من منجزات … الخ، هذا التناقض الذي يبدو للبعض بين نجاح أو إخفاق الثورة، أو بين هل هي بالفعل ثورة أم مجرد انتفاضة شعبية يترتب عليه السير في طرق مشتتة ومتضاربة، فعندما يأتي التنظير بعيدا عن الحقائق تأتي الحركة، وهي مظهر من مظاهر التنظير أيضا، مشتتة ومتضاربة. واختلافنا علي توصيف ما حدث يوم 25 يناير وما بعدها، أو عدم فهمنا أحيانا لطبيعة الثورة المصرية قد يوقعنا جميعا في أخطاء، الأمر الذي يستلزم تناول بعض قضايا ثورتنا في النقاط التالية:

ثورة وليست انتفاضة: هي ثورة بالفعل – فيما اعتقد – لأسباب عدة.. أنها ثورة وطنية ديمقراطية تقوم بنقل الوضع المجتمعي من حالة السكون إلي حالة الحركة، وهذا الانتقال بمفرده في العلم أو في السياسة هو انتقال كيفي أو حدث لابد أن يترتب عليه أحداث أخري لأن السكون لا ينتج جديدا، الحركة فقط هي ما يمكنها فعل ذلك، وهذا هو سر وعبقرية الشعار الأول للثورة الذي هتفت به حناجر شباب مصر يوم 25 يناير” تغيير ” والتغيير يعني نقل ميكانيزم السلطة المصرية من وضع الاختصاص العسكري بحكم مصر أو التوريث .. إلي مسار أخر يملك كل فرد الحق فيه حتي لو كان في مستوي الرئيس الحالي وقدراته المتواضعة، أضف إلي ذلك تحريك قوي المجتمع الخاملة منذ مذبحة هيئة التدريس عام 54 ، والقضاة عام 69 وتغيير لائحة 76 وحل مجلس الشعب 79 وضمور قوي المجتمع الحية من نقابات وأندية وأحزاب وجمعيات إبان حكم مبارك … وليس من شك أننا بصدد حالة تغيير حقيقية بغض النظر عن نتائج هذا التغيير الذي آل إلي قوة ظلامية ليس لقدرتها علي اقناع الناس ببرامجها التنموية، ولكن بقدرتها التنظيمية واستغلال الدين .

أخيرا .. فالفارق الجوهري بين الانتفاضة والثورة، أن الانتفاضة أو الاحتجاج الشعبي يصحح مسار السلطة أما الثورة الديمقراطية فتصحح مسار النظام، بينما تغير الثورة الاشتراكية بنية النظام نفسه.
ثورة ضد الفساد والاستبداد : جناحا السلطة السابقة ، فاستطاعت الثورة أن تهدمهما إلى حد بعيد أو علي أقل تقدير إبعادهما بصورتهما السابقة عن حكم البلاد. وربما كان هذا التغيير الذي يجب ألا ننكره نقطة تحول مركزية أيضا في تقييم الثورة، وأقصد هنا أن التعذيب مثلا ربما لا يختفي من أقسام الشرطة، ولكن المؤكد أيضا أنه لن يصبح حدثا عاديا بعد ذلك، وكذا اختفاء النخبة السياسية السابقة وظهور نخبة أخري قد تكون أسوأ هو أيضا تغيير .. فالتغيير فقط .. كان سمة المرحلة السباقة من الثورة، وقيمة التغيير هنا أنه فتح شرايين المجتمع لتقبل دماء جديدة.

التغيير ليس بالضرورة تقدما: هناك تمييز هام بين التغيير والتقدم، فالتغيير هو أن يصبح الشيء علي غير الحالة التي كان عليها ..بغض النظر علي هذه الحالة الجديدة ضد أو مع، ايجابية أو سلبية. أما التقدم فهو أن يصبح الشيء علي غير الحالة التي كان عليها بشرط أن يحمل من القديم صفاته الايجابية فقط ويستحدث هو صفات ايجابية أخري حتي ندرك تمايزه عن القديم . ونحن لسنا في حالة ثورية تقدمية؛ لأن شروط الثورة وشعاراتها لم تتحقق بعد، فعندما نحقق الحرية ثم العدالة الاجتماعية حينئذ يمكننا أن نقيمها كثورة متكاملة الشروط.
من التغيير إلى الحرية: أي من فساد واستبداد الحزب الوطني إلى ديكتاتورية وسلطوية الحرية والعدالة وأنصاره، ثم الي استبداد من نوع جديد يستدعي البونابرتية لتحكم بدوافع أقليمية ومحلية وعالمية… وبالتالي تصبح مهمة الثورة أصعب من ذي قبل حيث سنخوض معاركنا علي أكثر من جبهة .. سنخوضها ضد قوي سياسية دينية لها أنصار كثر لم ينفصلوا عنها تماما ، وضد هيمنة العسكر علي مقاليد الحكم ومنافذ السيطرة الاجتماعية ومدعومين من هيئات سيادية ذات نفوذ ..ومن هنا تأتي صعوبة الصراع التي ستفرض علينا بالضرورة .. وأؤكد علي هذه الكلمة ..” بالضرورة ” علي تغيير طريقة ومنهج العمل الثوري ليتحول من الميدان إلي الإنسان مباشرة لأنها معركة وعي وليست معركة سلطة فقط.

الثورة باقية .. ما بقيت مطالبها : وأخير فالثورة باقية في روح شعبها وشبابها وناسها .. باقية ما بقي الفقر والظلم والاضطهاد .. باقية لأننا من صنعها وإن فلتت منا في بعض الأحيان.. فالمولود يظل ينسب لأبويه مهما عاش غريبا عنهما.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف