نصف الدنيا
نوال مصطفى
أسبوع الاعترافات المتبادلة
ما الذى يحدث إذا ثقب إنسان ثقبًا صغيرًا.. فتحة في حجم الدبوس، ودخل منها إلى حياتك؟ ماذا لو تحولت تلك الفتحة الصغيرة إلى شقٍّ يتسع يومًا بعد يوم، ليحفر لنفسه طريقًا بين صخور قلبك التي تكوَّنت بفعل ترسبات الزمن؟

ماذا لو فوجئت بنوعٍ غريبٍ من الاحتلال لوجدانك وأفكارك ومشاعرك؟ نوع ينفذ إلى مناطق النشوة والرضا والسعادة فيحركها، ويحفزها لتعمل وتعطي وتبدع؟

هذا ما حدث لـ»طارق» وهو يغوص مع «شهد» في بئر الزمن المفقود.. الزمن الذى حاول مارسيل بروست الروائي الفرنسي أن يبحث عنه في روايته «البحث عن الزمن المفقود».

و»طارق» كذلك - شأنه شأن الكثير من الكتَّاب والأدباء - انشغل بفكرة الزمن.. الزمن الذى يغيرنا ويغير من حولنا.. الزمن الذى ينفلت من بين أيامنا ولا نستطيع مهما فعلنا أن نستعيده حتى لو حاولنا استدعاءه.. قد يأتينا كالطيف.. كالحلم الجميل الذى نبتسم لرؤيته، ثم لا يلبث أن يتبدد ويختفي.

فهل ربط البحث عن الزمن المفقود بين «طارق» و»شهد»؟ هل فجَّر ينابيع الحنين داخلهما بينما تتجسَّد أحداث الماضي أمام ناظريهما من جديد؟

لقد أحدث ذلك اللقاء زلزالاً حرَّك الثوابت المستقرة منذ سنواتٍ بعيدةٍ فى أعماقهما.. فهل كانت تلك المغامرة غير محسوبة؟ أم كانت مغامرةً عبقريةً كسرت حوائط الحسابات الجامدة التى تحولنا من بشر نحس ونحب ونبكي وننفعل ونلهو ونحزن إلى تماثيل أسمنتية كالحة اللون.. عديمة الإحساس؟.. آهٍ من تلك الحسابات.

لماذا لا نكسر الحوائط الباردة في حياتنا؟ لماذا نتركها تسحب منا إنسانيتنا دون أن نعترض أو نتمرد؟ لماذا نحسب كل شىء وكل خطوة نخطوها مائة ألف مرة؟ لماذا لا نحِّرر أنفسنا من أنفسنا؟

ظلت تلك التساؤلات تقفز في عقل «طارق» خلال تلك الليلة التي اختلى فيها بنفسه.. ذهبت «ليلى» إلى السينما مع صديقاتها.. وبقي وحيدًا، يداعب أفكاره وتداعبه، في خلوة كان في حاجة إليها، بل في أمَسِّ الحاجة لها.

لقد كان الأسبوع الأخير بينه وبين «شهد» أسبوع الاعترافات المتبادلة.. حكت له وحكى لها أشياء لا تُقال، ولم يبُح أي منهما بشىء منها إلى أقرب الناس إليه.. أسرار لا يواجه بها المرء إلا نفسه.. وعلى استحياء.

فهل ما حدث بينهما كان أشبه بكسر الجدار؟ يتشابه التاريخ والجغرافيا مع الكيمياء أحيانًا، وكيمياء «طارق» و»شهد» شهدت تفاعلاً قويًّا أدى إلى كسر الجدار الذى يلوذ به كل إنسان، ويحفظ وراءه أدق أسراره وخصائصه، ومعنى كسر الجدار بين شخصيتين أن حدثًا جللاً قد وقع، مثلما حدث عندما كسر الألمان الجدار بين ألمانيا الغربية والشرقية.

أرأيتم كم تتشابه الجغرافيا والتاريخ مع الكيمياء.. كيمياء البشر؟

تعرَّت شهد تمامًا أمام «طارق» ، بل خلعت كلَّ أقنعتها ودروعها الإنسانية، فتحت الباب المغلق بألف قفل في حياتها.. حكت له قصتها مع «خالد».. روت وسط دموعها وكأس النبيذ في يدها كيف قاومت الوقوع في الخيانة، وشرحت لـ»طارق» ذلك الصراع الرهيب الذي كان يلازمها خلال سنوات العشق والذوبان مع «خالد».

- لم أشعر أنني امرأة إلا معه.

هكذا وصفت «شهد» علاقتها بـ»خالد»، وكان «طارق» يعيش معها بكل كيانه ووجدانه.. يتوحد مع مشاعره ويذوب في تعبيرها الرقيق عما تحس.

كان خالد هو الحب الوحيد الذي خَفَقَ له قلبها.. سافر وتركها بحثًا عن طموحه العلمي والعملي، درس في أمريكا الدكتوراه وتفرَّقت بهما الطرق.. تزوجت من «أحمد» وتزوَّج هو من فتاة أمريكية.. وانزوت قصة حبهما في زاوية النسيان.. وإذا بالقدر يرتِّب لهما لقاء آخر، يعين «خالد» مديرًا بالبنك نفسه الذي تعمل به «شهد».

وبين شدٍّ وجذبٍ.. مقاومة وحنين.. تعود مياه العشق بينهما إلى مجراها.. وتعيش «شهد» بوجهين.. وجه مثالي لزوجة رائعة لـ»أحمد» وأم لطفلين جميلين، ووجه آخر حقيقي للعشيقة التي تذوب حبًّا في لحظاتها المسروقة مع «خالد».

حكت لـ»طارق» عن تلك المشاعر المتناقضة القاسية التى عاشتها في تلك الفترة.. السعادة المحلِّقة.. النشوة في ذروتها مع «خالد».. تعقبها نوبةٌ من عذاب الضمير تنزل عليها مؤِّنبةً، تدعوها للعودة إلى رشدها وأخلاقها ودينها، وأن تحفظ اسم زوجها الذي منحها الشكل الاجتماعي المحترم، وابنيها اللذين منحهما الله لها كأغلى هدية.

روت كيف كانت تعيش بمشاعر يملؤها الخوف الذى يصل إلى درجة الفزع على أولادها.. تقتحمها الهواجس والأفكار السوداء.. سوف ينقلب أوتوبيس المدرسة بالأولاد فى حادثٍ مروريٍّ.. سوف تقع ابنتى من البلكونة.. سوف يموت أحد أبنائي.. أو كلاهما.. سوف يعاقبني الله ويحرق قلبي لأنني عصيَّة وعاشرت رجلاً آخر غير زوجي، رغم أننى أشعر في قرارة نفسي أنه زوجي الحقيقي، أما «أحمد» فهو الزوج الرسمي.

- عشرات الهواجس.. عشرات السياط كانت تنهب هدوئي وتسرق سعادتي.. فقدتُ كثيرًا من وزني، وكنت لا أنام إلا بالمهدئات طوال تلك السنوات الثلاث التي استمرت خلالها علاقتنا.. سنوات السعادة والألم.. السعادة في أقصاها والألم في ذروته.

أجهش «طارق» في البكاء بعد لحظات من المقاومة.. كان يحاول أن يمسك دموعه.. أن يبدو متماسكًا، لكن شيئًا ما داخله دفعه لأن يترك نفسه على طبيعتها، ولا يمارس عليها نوعًا من الوصاية.. إنه يريد الآن أن يبكي.. أن يبوح.. أن يتخفَّف من عبءٍ كبيرٍ نام فوق قلبه لسنواتٍ طويلةٍ لم يستطع أن يتكلم عنه مع أحد.. لم يجرؤ.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف