الأهرام
محمد ابو الفضل
تركيا تطرق أبواب غزة
البعض قد يعتبر هذا العنوان على سبيل النكتة السياسية، أو من قبيل المستحيلات، لكن البعض الآخر من أمثالى لديهم اقتناع أن الكثير من التطورات والأحداث المهمة فى المنطقة كانت من هذه النوعية، فلم يكن أحد يتخيل أن تنفرد حركة حماس بالسيطرة على قطاع عزة، ولم يتوقع كثيرون أن تستمر حتى الآن.

بالتالى فمناقشة النكت أو المستحيلات السياسية مسألة مهمة أحيانا، ومناسبة هذا الكلام أن الصحافة الإسرائيلية نشرت معلومات بشأن طلب تركيا من إسرائيل مساعدتها فى الإشراف على إدارة قطاع غزة، الذى رحبت به حماس، بحكم المكونات الأيديولوجية التى تربطها والحزب الحاكم فى أنقرة، ولم تقبل أو ترفض تل أبيب، لكن مجرد تسريب المعلومة من قبلها يعنى أن لها أغراضها، سواء فى إتمام الخطوة أو حتى توظيفها سياسيا.

مع أن المشروع القديم ـ الجديد أصبح مثل كرة الثلج، يكبر يوما بعد يوم، واكتفت السلطة الفلسطينية بالشجب والتهكم، إلا أن مصر تواصل صمتها، وتتصور أن هذه المسألة لا تصب فى مصلحة إسرائيل، وحتى لو الأخيرة قدمت تطمينات بأنها ترفض الرغبة التركية حاليا، كما رفضتها قبل نحو عامين، لأنها تتعارض مع مصالحها الإستراتيجية، فإن الحسابات السياسية المنطقية يجب ألا تستبعد أن تنتقل الفكرة من مربع الرغبة إلى الواقع، والمناورة بها من أجل الحصول على تنازلات مصرية فى ملفات متعددة.

يمكن الحديث طويلا عن التأثيرات السلبية التى تتكبدها إسرائيل من وراء هذه الخطوة، لكن هناك مكاسب مركزية تحصدها من ورائها، فهى تقذف بآخر عبء ثقيل من على عاتقها، وإذا كان انسحابها من القطاع أزاح عنها هما سياسيا وأمنيا كبيرين، فإشراك دولة مثل تركيا فى الإشراف على إدارة غزة، قد يخفف من مسئوليتها الدولية كدولة احتلال، ويدق المسمار الأخير فى نعش استعادة اللحمة بين القطاع والضفة الغربية.

نعم هناك من يتحدث عن طموحات سياسية لتركيا فى المنطقة تتعارض ظاهريا مع إسرائيل، لكن المؤكد أن أنقرة تدير علاقاتها منذ زمن مع تل أبيب بدرجة عالية من النفعية، والدليل عودتها القوية خلال الأسابيع الماضية، والتفاهم حول توطيد العلاقات وفقا لمصالح الطرفين، بمعنى أن مقاربتها المفترضة لغزة يمكن أن يتم البناء على الجوانب الإيجابية فيها، وتنحية الأبعاد السلبية، خاصة أن لكل طرف حسابات ومصالح يمكن أن تؤدى إلى تقريب المسافات بينهما بسهولة.

ما يلفت الانتباه فى المعطيات السابقة، أن السياسة المصرية تعاملت معها بطريقة ردود الأفعال، ومع أن الفكرة ليست جديدة، لكن فاتنا سد المنافذ أمامها خلال الفترة الماضية، حتى عاد الحديث عنها مرة ثانية، كما أن هناك ارتياحا لفكرة الصعوبات والعراقيل التى تواجه المشروع، وهو الوحيد الذى يفسر حالة الصمت التى ظهر عليها الموقف المصري، إلا إذا كانت هناك تحركات خفية مدروسة، وفى هذه الحالة لن تكون مواقف الدوائر الرئيسية، إسرائيل وتركيا تحديدا، بالجرأة التى رأيناها فى التعليق على المشروع، حيث لم يتم نفيه رسميا، وترك الحبل للتكهنات والتخمينات لتمده على استقامته.

وإذا كانت المعلومات التى جرى تسريبها من الجانب الإسرائيلى وتأكيدها ضمنيا من قبل تركيا، فمعنى ذلك أن الفتور الذى قابلت به مصر الفكرة، يمكن أن يشجع عناصرها على تحويلها إلى واقع، لأن رد الفعل القوي، والتحرك الفعال، والإمساك بزمام المبادرة فى ملفات موجعة، من العوامل الكفيلة بردع أصحابه، ووأد المشروع مبكرا.

لأن مصلحة أنقرة فيه تتجاوز الضغط على مصر لفتح معبر رفح، على طريقة السداح المداح، وإدخال عناصر مطلوبة أمنيا، إلى ارتباطه بتقديرات تخص عددا من القضايا الإقليمية، منها القيام بنقلة نوعية فى السياق التاريخى للقضية الفلسطينية، المرتبطة أصلا بمصر، وغزة بشكل خاص واحدة من المناطق الشديدة الحيوية، لذلك فدخول أنقرة على الخط فى هذا التوقيت هدفه قطع هذه الصلة، أملا فى أن تحمل تركيا الراية مستقبلا.

وهو ما يعزز طموحاتها فى القيام بدور إقليمى مؤثر، خاصة أن القضية الفلسطينية مرجح فى ظل الحماس الراهن لتسوية بعض الأزمات أن تدرج ضمن جدول أعمال المنطقة، لأنها فى نظر قوى دولية سوف تبقى أم القضايا الإقليمية، مما يضفى بريقا على أنقرة، إذا نجحت فى خطتها لطرق أبواب غزة.

كما أن الحضور القطرى فى القطاع، والمتمثل فى شكل مشروعات بناء متباينة الأغراض، ويتم تحت سمع وبصر إسرائيل، لم يعد هينا، فقد منح الدوحة وجودا فعليا على الأرض، وضاعف من عمق علاقاتها الشعبية، وأوجد لها قاعدة يمكن أن تستفيد منها عند الملمات، فى حين أن الرصيد التاريخى لمصر آخذ فى التآكل، وإذا أضيف الوجود التركى السياسى والأمنى إلى نظيره القطرى الاقتصادي، متوقع أن تتكاثر التحديات، وتتزايد المشكلات القادمة إلينا من القطاع، والذى ربما يتحول إلى صداع مزمن، من النواحى السياسية والأمنية والاجتماعية.

فى هذه الأجواء من الضرورى أن يتم التعامل بجدية وحسم، لأن مشكلة المشروع التركى ليس فقط فى إمكان تنفيذه من عدمه، لكن فى أحلامه الواسعة وإمكان أن يفتح الباب لأفكار أخرى أشد صعوبة، فهو ينطوى على إشارة قوية بسحب البساط الفلسطينى من مصر، وتمكين تركيا وقطر من التحكم فى مفاتيحه، لاسيما أن علاقتنا مع حماس سيئة، ومع السلطة الفلسطينية متذبذبة أو ليست على المستوى المطلوب.

لم يعد أمامنا سوى إدخال تعديلات كبيرة على الطريقة التقليدية التى يتم التعامل بها مع قطاع غزة، وعدم الاكتفاء بالرادارات البشرية، وضرورة ملازمتها بخيال متوهج، ومحاولة البحث عن آليات سياسية ودبلوماسية توقف زحف السيناريوهات الغامضة، التى من المتوقع أن تتكاثر علينا، رغبة فى كسر الشوكة المصرية التى تقف فى حلق دول كثيرة، وتحول دون أمنيات أصحابها الخبيثة، والسعى لشغلنا بملفات مختلفة، للتخلى عن قضايا محورية، لأن مشروع تركيا فى غزة ربما يكون غطاء لقضايا أخرى بعيدة.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف