الأهرام
د. قدرى حفنى
الفتنة الكبرى وتوابعها
الفتنة الكبرى علامة فارقة فى التاريخ الإسلامي؛ مضت على أحداثها سنوات طوال ولكنها لم تغادرنا، أو بالأحرى لم نشأ نحن أن نغادرها رغم أن أطرافها جميعا قد غادرونا إلى الدار الآخرة منذ أكثر من قرن من الزمان وأصبحوا بين يدى الحق سبحانه وتعالي.

حين يتابع أحد عامة المسلمين المصريين البسطاء أمثالنا ذلك الجدل حامى الوطيس بين المتخصصين فى شئون الدين والدولة حول التفرقة الواجبة بين أتباع المذاهب الشيعية، وأتباع المذاهب السنية؛ يكاد يحس بلهيب نيران المعارك وصهيل الخيول وصليل السيوف تنبعث للحياة من جديد بعد أن غادرنا أطرافها جميعا إلى دار الحق. ويكاد المرء إذا ما استبد به الحماس أن يطالب بضرورة أن يساق أطراف تلك الفتنة الكبرى جميعا إلى محاكمة عادلة عاجلة ناجزة ليرى فيهم القاضى ما يري، وليستبين لنا الحق. ورغم أن العرف القضائى الوضعى قد استقر على سقوط الدعوى الجنائية بوفاة المتهمين؛ فالأمر يختلف بالنسبة لوقائع تلك الفتنة الكبري. إنها لا تسقط بالتقادم ولا بالتجاهل كما أنها فيما يبدو يستحيل أن تسقط بالتصالح. وكيف لمثل تلك الدعوى أن تسقط ومازالت المآتم والحسينيات تستعيد تفاصيل جرائم «النواصب» الذين ناصبوا عليا رضى الله عنه العداء وتجسد تفاصيل استشهاد الحسين رضى الله عنه؛ وفى مقابل ذلك مازالت الصيحات تتعالى تستنهض الهمم للتصدى لمؤامرات «الروافض» الذين رفضوا الانصياع لتسلسل الخلافة الراشدة وتلوثت أيديهم بدماء سيدنا عثمان رضى الله عنه.

إن عامة المسلمين المصريين البسطاء استطاعوا بعبقرية فريدة أن يضعوا ذلك الحدث التاريخى الهائل فى سياقه التاريخى لا يتجاوزه، ولذلك فإننا لا نجد حرجا فى الترضى على سيدنا على وسيدنا عثمان وسيدنا معاوية وسيدنا الحسين وسيدنا الحسن رضوان الله عليهم جميعا. لا نقدسهم ولكنا نضعهم فى مكانتهم اللائقة باعتبارهم صحابة رسولنا عليه الصلاة والسلام. هم بشر يخطئون ويصيبون بطبيعة الحال، ولكنا لا نشغل بالنا بمحاكمتهم؛ ومن ناحية أخرى لا نحس حين نترضى عليهم جميعا أننا نؤيد «تداول السلطة بالتوريث» أو «تداولها بالسيف»؛ أو أننا حين نترضى على سيدنا معاوية رضى الله عنه أننا نؤيد المطالبة الفورية بحق الشهداء ولو على حساب مزيد من نزيف دماء المسلمين، ولا أننا نؤيد أساليب ممارسة الدولة الأموية فى الحكم؛ ولا يخطر ببالنا أننا حين نترضى على سيدنا على رضى الله عنه أننا نؤيد بالضرورة إرجاء الثأر للشهداء حقنا للدماء؛ أو أننا حين نترضى على سيدنا الحسن رضى الله عنه أننا نؤيد دون تحفظ تنازل الحاكم عن السلطة حقنا للدماء؛ أو أننا حين نترضى على سيدنا الحسين رضى الله عنه أننا نؤيد بلا تحفظ المضى فى القتال دفاعا عن الحق دون اعتبار لموازين القوي.

لقد أدركنا نحن عامة المسلمين المصريين البسطاء بفطرتنا النقية حقيقة الطابع التاريخى لتلك الأحداث، وأنها أحداث وقعت منذ زمن بعيد وأن الله وحده أعلم بنوايا أطرافها، وأننا لسنا مطالبين حاشا الله بمحاكمتهم. نأسى بطبيعة الحال حين نستمع لوقائع استشهاد الحسين، دون أن نرى أن علينا الآن وفورا كما يرى العديد من إخوتنا الشيعة-إدانة من قتله بل وإدانة وقتل ذرية القاتل باعتبارهم ذرية أصحاب دم الحسين رغم مرور ما يزيد على القرن على استشهاده؛ كما أننا حين نسمع التفاصيل الدامية لمقتل سيدنا عثمان رضى الله عنه لا نجد أن علينا الآن وفورا كما يرى العديد من أهلنا السنة-أن نرفع قميص عثمان لنستخلص حق الدم من قتلته «الروافض» ومن ذريتهم باعتبارنا ذرية أصحاب دم عثمان. وتناسى الجميع أنه ليس من سند تاريخى علمى يثبت بشكل قطع تسلسل انتساب أى من الفريقين لأى من الطرفين.

ترى هل غاب عن كثير من المسلمين وخاصة من أبناء النخب المتخصصة فى شئون الدين والدولة، ما توصلت إليه فطرة عوام المصريين المسلمين؟ لا يبدو الأمر بهذه البساطة مطلقا. لقد حدث فيما يبدو خلط قد يكون مقصودا بين الدين والدولة أو بالأحرى بين المذهب والدولة؛ كما حدث خلط آخر قد يكون مقصودا أيضا فى مجال تحميل الأجيال الجديدة وزر ما أقدم عليه أسلافهم منذ مئات السنين.

وبناء على ذلك يجرى إحياء وقائع الفتنة الكبرى من جديد كما لو كانت قد وقعت منذ أيام. ولم يعد الأمر جدلا فقهيا بين مذاهب سنية ومذاهب شيعية؛ بل أصبح بين دول ومصالح دولية وإقليمية كبرى تتخذ من الدين سندا لدعاواها ومن جماهير المتدينين وقودا لحربها التى لم يعد هدفها غامضا. إنه تمزيق دول المنطقة وإغراقها فى فوضى دموية تحولها فى النهاية إلى دويلات أو إمارات دينية مذهبية. لم يعد ذلك الهدف بعيدا يتطلب إعمال الفكر والتخيل لتبين ملامحه؛ بل انه يتجسد شيئا فشيئا بداية من فلسطين إلى العراق إلى سوريا إلى ليبيا وها هو يدق أبوابنا فى سيناء؛ بل وتمتد دعواته وأذرعه إلى داخل الوطن.

ترى ألم يحن الوقت بعد ليستيقظ الجميع ويدركوا أن أحداث الفتنة الكبرى قد انتهت منذ ما يزيد على ألف عام؛ وأن المخرج الوحيد هو التمسك بالنموذج المصرى بدلا من محاولة تشويهه.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف